هل الأغنياء كرماء؟

كتاب حديث يستعرض أخلاقيات أروقة المال والاقتصاد

غلاف الكتاب
TT

مؤخرا، صدر كتاب «غود ريتش» (الأغنياء الجيدون) الذي كتبه الدكتور روبرت دالزيل، أستاذ الاقتصاد في كلية وليامز كجزء من المناقشات الأكاديمية والصحافية عن دور الأغنياء في المجتمع الأميركي، خاصة في الوقت الحاضر. زادت هذه المناقشات في الوقت الحاضر لسببين:

أولا: الكارثة الاقتصادية (المالية) التي بدأت عام 2008، بسبب طمع بنوك أميركية عملاقة، واستغفالها لعامة الناس بمنحهم قروضا لا يقدرون على سدادها. وعندما تكشفت الحقائق، ثار أميركيون، وانتقدوا كثيرا المسؤولين عن البنوك، وانتقدوا الشركات التجارية العملاقة، وانتقدوا السياسيين الذين ساعدوهم.

ثانيا: النقاش الذي لم، ولن، يتوقف عن أخلاقيات رجال المال والتجارة والاقتصاد. عن البخل مقابل الكرم، عن الطمع مقابل القناعة، عن الكذب مقابل الصدق.

هل هم، كما يقولون، يخلقون الوظائف للموظفين والعمال، أو، كما يقول ناقدوهم، يضطهدون الموظفين والعمال؟ هل هم، كما يقولون، طموحون وأذكياء، أو، كما يقول ناقدوهم، حيوانات مفترسة وأسماك قرش؟

في مقدمة الكتاب، كتب دالزيل أن عنده الإجابة على هذه الأسئلة. وكتب: «عبر تاريخنا، ظللنا نقيم علاقات متأرجحة مع الأغنياء. ظللنا نحاول التوفيق بين الديمقراطية والثروة. نريد الحرية، ولكن لا نريد للأغنياء أن يبيعوا الناس ويشتروهم. وفي الجانب الآخر، نريد أن نكون أغنياء، ولكن لا نريد أن يكون ذلك على حساب حريتنا وكرامتنا».

وأضاف أن الأغنياء، في جانب، يقدرون على استغلال واستعباد موظفيهم وعمالهم، وعلى التمتع بثرواتهم بطرق مترفة، ربما تدعو للاستغراب، أو تدعو للتقزز. وفي الجانب الآخر، يقدرون على صرف أجزاء كبيرة من ثرواتهم، وأحيانا كلها، لأعمال الخير.

الخلاصة: سيحكم عليهم التاريخ بأنهم فاعلو خير، وأيضا، رأسماليون طماعون.

وفي الكتاب خلفية لهذا الصراع التاريخي. منذ أن بدأ الإنسان الأول يبيع ويشتري، مرورا بفلاسفة أثينا وروما، والثورة الصناعية، والتجارة مع المستعمرات، والرقيق والاستغلال، والنظرية الشيوعية، وانتصار الرأسمالية، رغم طمعها واستغلالها.

سماها «هيستوريكال ديل» (الصفقة التاريخية: حرية اقتصادية في مواجهة قيود سياسية). يثرى الأثرياء ويثرون الناس، لكن يقدر الناس على السيطرة عليهم.

طبعا، يتحدث دالزيل عن الولايات المتحدة وأوروبا حيث الحرية السياسية تقدر على مواجهة الحرية الاقتصادية. وحيث الحكومات، ليست فقط ديمقراطية، ولكن، أيضا، ديمقراطية عريقة، عمر بعضها قرابة ثلاثمائة عام. لكنه لا يتحدث كثيرا عن نفوذ الأغنياء في الدول التي فيها ديمقراطيات نامية وضعيفة، والتي ليست فيها ديمقراطية. هنا لا يشتري الأغنياء السياسيين فقط، بل يشترون الشعوب، أو ربما حتى الأوطان.

لكن، قال الكتاب إن هذه «الصفقة التاريخية»، في الولايات المتحدة على الأقل، يمكن ألا تستمر كثيرا. أو يمكن أن تتغير. وإنها تغيرت في الماضي:

كان هناك روبرت كين (القرن 17)، أغنى أغنياء بوسطن. الذي اتفق مع عمدة المدينة على تمويل المدارس والطرق والماء، على شرط أن يربح كما يريد.

ثم جاء جون روكفلر (القرن 19)، أغنى أغنياء أميركا في ذلك الوقت. وأسس أكبر مؤسسة خيرية في أميركا، وفي العالم. التي بنت: جامعة روكلفر، جامعة شيكاغو، متحف كلوييستار في نيويورك، إعادة بناء وليامسبيرغ، عاصمة الاستعمار البريطاني (ولاية فرجينيا)، الخ..

وجاء في الكتاب: «يوجد هنا شيء خرافي يوناني قديم. يوجد تعايش الأضداد: ثروة طمع واستغلال، وإنسانيات وعمل خير».

لكن، يوجد سبب «سياسي»، وهو خوف الأغنياء من غضب غير الأغنياء. وأشار الكتاب إلى مليارات الدولارات التي قرر كل من بيل غيتس (مؤسس مايكروسوفت) ووارين بافيت (مؤسس وصاحب استثمارات يوركشير) صرفها على أعمال الخير والنشاطات الإنسانية. وقال إن توقيت الرجلين ليس صدفة: مع الغضب الشعبي (في أميركا وفي العالم) على طمع البنوك والشركات الذي أدى إلى الكارثة الاقتصادية عام 2008.

وكتب: «في أعماقهم، يريد الأغنياء أن يحبهم غير الأغنياء».

وربما ما كان هذا مشكلة. خاصة أن مجلة «فورشان» لرجال الأعمال قدرت بأن هناك أكثر من مائة ملياردير أعلنوا أنهم سيهبون أجزاء كبيرة من ثرواتهم للأعمال الإنسانية.

لكن، يحدث هذا مع إحصائيات أشارت إليها نفس المجلة، وهي أن الأغنياء يزيدون غنى والفقراء يزيدون فقرا. منذ عام 1980، زاد دخل الأغنياء (واحد في المائة من الأميركيين) بنسبة 300 في المائة، بينما زاد دخل الطبقة الدنيا (عشرين في المائة من الأميركيين) بنسبة 18 في المائة.

بالإضافة إلى الإحصائيات، هناك أحاسيس عامة الناس. في السنة الماضية، نشرت صحيفة «واشنطن بوست» نتائج استطلاع أوضح أن ستين في المائة من الأميركيين الذين صوتوا في انتخابات عام 2012، قالوا، نعم، الأغنياء يزيدون غنى. (لا بد أن النسبة أعلى وسط الذين لم يصوتوا لأن أغلبيتهم أقل تعليما وأقل ثروة).

خمسة في المائة فقط من الأميركيين قالوا إن الأغنياء لم يزيدوا غنى. ويظل كثير من الأغنياء محبوبين. بداية من جورج واشنطن، الرئيس الأول، الذي كان تاجرا إقطاعيا، وكان يملك عددا كبيرا من الرقيق الزنوج. ونهاية بالنجمة التلفزيونية الملياردية السوداء أوبرا وينفري، التي رصدت جزءا كبيرا من ثروتها لخدمة السود، في أميركا وفي أفريقيا.

(توجد على غلاف الكتاب صورة واشنطن، وصورة أوبرا).

وأخيرا، سيستمر النقاش حول محاسن ومساوئ الأغنياء. لكن، كما يقول هذا الكتاب، ليس الأغنياء إنسانيين بقدر ما هم واقعيون. يريدون عمل الخير، لكن، مع هدف آخر (ربما غير معلن)، وهو خوفهم من غضب غير الأغنياء عليهم (أمن الأغنياء).

وتجدر الإشارة أولا إلى أن مفهوم الكرم الذي صاحب الظاهرة الجديدة يختلف قليلا عن المفهوم القديم. فالكرم الجديد الذي يُسمى بالإنجليزية Philanthropy يختلف عن الكرم التقليدي Charity في كونه لا يتبرع بصدقة للمحتاجين، بل يتبرع لمنظمات تسعى لحل جذور المشكلة وليس عوارضها - على سبيل المثال، دعم منظمة لتعليم أبناء الفقراء بدلا منح أسرهم صدقة، أو دعم كليات الطب والتمريض في بلد ما بدلا من إرسال العقاقير إليه. ويرى الكثير من الاقتصاديين أن تطور ما يسمونه «الكرم الذكي» سيصبح صناعة كاملة مع اتساع سلطة وثروة القطاع الخاص حول العالم. وقد تبدو الظاهرة الجديدة واضحة في المقارنة التالية: بيل غيتس، صاحب شركة مايكروسوفت وأغنى رجل في العالم، تبرع بما مجموعه 31 مليار دولار (أي 31000 مليون دولار) ليصبح أكبر متبرع في العالم، في حين كان صاحب هذا اللقب في الماضي جون روكفيلور الذي بلغت تبرعاته ما يعادل 6 مليارات بحساب قيمة الدولار اليوم. ولا ننسى هنا أن غيتس لا يزال في منتصف عمره وأن تبرعاته ستزداد كثيرا مع الوقت. ولكن حتى بيل غيتس نفسه ومعه كثيرون آخرون لم يبدأوا «التنافس» على التبرعات الكبيرة إلا في السنوات الثماني الماضية. فحتى عام 1998 كانوا حريصين على ثرواتهم ويتبرعون فقط بقدر ما يعفيهم من جزء من دفع الضرائب.