منتدى دافوس يعقد وسط هواجس أمنية وحديث عن احتمال نقل مقره إلى لوكسمبورغ أو المغرب

TT

على مر العقود، اشتهر منتجع التزلج هذا، في قلب الجبال السويسرية، بمشافيه التي يعزل فيها مرضى داء السل للمعالجة والاستطباب. وعندما اتخذ الروائي توماس مان الحائز جائزة نوبل من دافوس مكانا لاحداث روايته الشهيرة «جبل السحر»، لم يدر بخلده ان هذا المنتجع سيصبح يوما ما مركزاً للتحاور العالمي إزاء كل القضايا المهمة، من مسائل الاقتصاد المستعصية وحتى اخلاقيات التقدم العلمي.

وتحول المشفى في رواية مان حيث يقيم ابطال روايته معزولين عن الآخرين، الى منصة حوار تتواجه فوقها التيارات الفكرية الاوروبية المهمة آنذاك، اي قبل الحرب العالمية الاولى. وبينما يمثل المهندس الالماني الشاب كاستروب المعسكر الليبيرالي، تقع مهمة الدفاع عن اشكال الجماعية المختلفة على عاتق المحرض الايطالي سمبريني. وفي نهاية المطاف يضطر ابطال الرواية الى النزول من الجبل الى الوادي، في اشارة الى تركهم افكارهم الكبيرة، ومواجهة واقع اندفاع اوروبا تجاه حرب عالمية.

ويحاول الملتقى الاقتصادي العالمي المنعقد هذا الاسبوع في دافوس، الاول في هذه الالفية الجديدة، تنظيم حوار مشابه لما تستعرضه رواية مان. بيد ان ثمة فارقا هنا، من وجود معظم دعاة «الجماعية» خارج قاعة التحاور والنقاش، صارخين بالشعارات وحارقين للاعلام ورافعين قبضاتهم في الهواء ضد ما يعتبرونه الآيديولوجيا «الليبيرالية» المهيمنة للعولمة.

اما جميع من في الداخل فانهم مقتنعون بان العولمة هي الطريق الوحيد والافضل للسير قدما. وليس ذلك مثارا للاندهاش، اذ ان الغالبية الساحقة لمن يأتون هنا هم من رؤوس الرأسمالية المعولمة. اذ تستضيف دافوس المديرين التنفيذيين لأضخم ألف شركة كبرى في العالم. كما تجتذب مئات القادة الحكوميين في الوقت الذي تنطلق فيه الآيديولوجيا المهيمنة من الليبرالية الاقتصادية واقتصاد السوق.

رغم ذلك، يبدو ان دافوس تهتز من قوة حركة الاحتجاجات المناوئة للعولمة التي ظلت تتشكل على مدار الاعوام الثلاثة الماضية. وكشفت هذه الحركة عن عضلاتها في سياتل بالولايات المتحدة خلال قمة منظمة التجارة العالمية التي عقدت عام 1999 وبعدها نظمت احداث الشغب الجماعية في براغ، ايضا خلال مؤتمر منظمة التجارة العالمية. وبعدها، شوش المتظاهرون ايضا على المؤتمر الآسيوي الباسيفيكي المنعقد في ملبورون باستراليا. كما ارسلت هذه الحركة على طول العامين الماضيين اتباعها الى دافوس بغرض الاجهاز على الملتقى وتخريبه. ولهذا فان اجراءات الامن لهذا الملتقى غير مسبوقة. وحسب بعض المصادر، فان قوات الجيش السويسرية دشنت اضخم عملية لها منذ عقود، للحيلولة دون تحول هذا المنتجع الصغير الى ساحة حرب بين المتظاهرين والمشاركين في الملتقى.

وقد نجح المتظاهرون في هز الرأي العام السويسري الى حد دفع بعض المسؤولين في بيرن، العاصمة الفيدرالية، الى الحديث علنا عن احتمالات اغلاق دافوس في وجه الملتقى الاقتصادي. وقاد ذلك الى اطلاق تكهنات كثيرة حيال المكان المحتمل الجديد لاستضافة الملتقى. ويعتقد ان لوكسمبورغ ابدت اهتماما باستضافة هذه الفعالية السنوية. كما ذكر اسم المغرب ايضا كبلد مضيف محتمل للملتقى الاقتصادي العالمي.

اما في دافوس نفسها، فقد استقبلت توقعات خسارتها استضافة هذا الملتقى بفزع كبير. اذ يكسب هذا المنتجع الجبلي الصغير 17 في المائة من دخله السنوي خلال الايام الستة لانعقاد الملتقى. وفي حال نقله الى مكان آخر، سيضطر نصف فنادق المنتجع على الاقل الى اغلاق ابوابها، مما يعني خسارة مئات من فرص العمل.

ويقر كلاوس تشاوب، استاذ الاقتصاد الذي اوجد الملتقى وترأسه طيلة العقود الثلاثة الماضية، بوجود المتظاهرين ضد العولمة كحقيقة واقعة، بيد انه وعد بتوفير دافوس مكانا لآرائهم ضمنها. ويعلق بهذا الصدد «نواجه صدامات ضد العولمة تستمد جذورها، كما اعتقد، من الهوة المتسعة بين المنتفعين من العولمة وغير المنتفعين منها»، واضاف «نشعر ان من المهم جدا، وتحت ضوء مصالح قطاعات المال والاعمال، النظر في الانقسام الحاصل بين المنتفعين وغير المنتفعين، وما يمكن فعله لجعل العولمة اكثر تلائما مع توقعات القطاعات الاكبر من شعوب العالم التي تشعر بأنها لا تنتفع منها».

وبوصفه الملتقى على انه «بيت دافئ لتداول الافكار»، يشير تشاوب الى ان عنوان الحوارات لهذا العام «تجسير الفجوات القائمة». ولكن ما معنى هذا من ناحية عملية؟ لقد ترجم ذلك عمليا بدعوة عدد من الكتاب والمفكرين الذين يقفون على الضد من العولمة الى الملتقى لعرض آرائهم من داخله. غير ان ما من شك في ان العولمة، اي ايجاد سوق عالمي مفتوح تسوده المنافسة الحرة، تظل العقيدة الثابتة لقبيلة داغوس.

ويحاول تشاوب ان يضع غلالة اجتماعية لامعة على العولمة باصراره على ضرورة التفات الرأسمالية العصرية «للمصلحة العامة». كما يشدد على انه في الوقت الذي يشهد تراجع نفوذ الدولة القومية فانه لا مفر للشركات الخاصة من تناول «مسائل عصرنا الاساسية مثل العدالة الاجتماعية وحماية البيئة وحقوق الانسان». كما يضم الملتقى في هذا العام ايضا ممثلين عن اكثر من 40 منظمة غير حكومية، منهم الكثير من جماعات الضغط ذات الاجندات المناهضة للعولمة. ولا يصدر الخطر عن المحتجين على العولمة فقط، بل ان بعض منظمي الملتقى، طلبوا عدم ذكر اسمائهم، زعموا ان «دوائر متنفذة في الولايات المتحدة» ترغب في الغاء ملتقى دافوس لانه الفعالية الدولية الضخمة الوحيدة من نوعها في العالم التي لا يديرها الاميركيون.

وبالطبع، فان نظريات المؤامرة تتهاوى دائما دون توفر ادلة قوية. غير ان المشاركة الاميركية في الملتقى لهذا العام كانت ذات مستوى اقل من غيرها في العقد الماضي او نحوه. وربما يكون وراء ذلك تأخر تشكيل الادارة الاميركية الجديدة تحت رئاسة جورج دبليو بوش قرابة ستة اسابيع، نتيجة الخلاف على نتائج الانتخابات في فلوريدا. وهذا يعني ان منظمي الملتقى لم يعرفوا لمن يوجهوا له الدعوة من الولايات المتحدة.

على اننا حتى لو اخذنا ذلك في الاعتبار، فان ادارة بوش الجديدة اقل حماسا ازاء فعاليات من شاكلة ملتقى دافوس من ادارة بيل كلينتون. حيث ان كلينتون حضر بنفسه هذا الملتقى مرتين، وكذلك كانت زوجته هيلاري من بين الحضور المداومين، الى جانب نائب الرئيس آل غور. وكانت كبار شخصيات ادارة كلينتون تستغل هذا الملتقى كمناسبة للالتقاء بالشخصيات البارزة وفرصة للاعلان عن سياساتها المهمة.