دول الخليج.. مكيفة الهواء ومستقبل المناخ الاقتصادي

حسين شبكشي

TT

لمكيف الهواء رمزية خاصة في حياة مواطن دول مجلس التعاون الخليجي العربي، فهو الذي ساهم في نقل مناخ هذه الدول من لهيب حارق الى مناخ مقبول قابل للعيش والعمل والإنتاج، وحول طبيعة الناس ولو ظاهريا من الخمول التقليدي المصاحب لتلك الأجواء الى مستويات انتعاش قريبة من دول ذات مناخ أكثر ملاءمة. ولكن مكيف الهواء أصبح لفظاً مجازياً لوصف السياسة الاقتصادية لدول المنطقة ايضاً فهو في كلمة واحدة يشمل وضع «التحكم ومستوى الراحة» التي تمنحها دول المنطقة لاقتصادياتها وكأن كافة «المناخ» الاقتصادي يخضع لرقابة أداة تلقائية لرقابة الحرارة، وقد أصبح طبيعيا لرجل الأعمال الخليجي أن يقبل بإغلاق «النوافذ» عليه طالما كانت درجة الحرارة الداخلية «مناسبة».

ولعل الحضور الخليجي الاستثنائي والمركز خلال احداث المنتدى الاقتصادي العالمي بدافوس كان خير دليل على تغير طريقة الطرح في الفكر الاقتصادي الخليجي. ولقد أثار اعضاء الوفود في كواليس المنتدى بما طرحوه من تساؤلات أكثر مما أجابوا عنه. ولعل الفائدة سوف تكون بتطبيق بعض الأفكار التي جنتها الوفود من فرص التعاصف الفكري والمشاركة في الندوات حين عودتها لبلادها. وسوف تكون جاهزية دول الخليج أمام التحدي الخطير محل سؤال وبحث. فهل لدى هذه الدول القاعدة المؤسسية المطلوبة لقبول «حرية الرأي» ومن بعد ذلك قبول مبدأ «المشاركة» في صنع القرار؟ وهذان امران حيويان لإحداث النقلة النوعية والإصلاح الهيكلي الذي تشترطه الموجة الاقتصادية الجديدة، وتدور الآن في بعض دول مجلس التعاون احاديث مهمة عن فكر مؤسسي جديد للفصل بين الحكم والحكومة واستحداث قنوات المشاركة في صنع القرار، وهذا لو تم سيكون تمهيداً اساسياً في تجهيز انطلاقة اقتصادية جديدة على قاعدة هيكلية مطورة. وعلى الرغم ان التحديات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية المختلفة التي تمر بها دول الخليج تطلب حلولا عاجلة وجذرية فإن التردد والبطء في تنفيذ القرارات يجعل تكلفة القرار أبهظ ثمنا. ولم تستطع دول مجلس التعاون الخليجي ايجاد وسيلة جذابة حقيقية لإعادة أكثر من 800 مليار دولار تعتبر رأسمال خليجيا هاربا. وأي مال يعود يوجه نحو انشطة مضاربات تحقق عائدا سريعاً كشراء العقارات أو تمويل سلع كمالية أو تجارة أسهم، بدلا من استثمارها في مشاريع انتاجية ذات فائدة طويلة الأجل تساهم في ايجاد قاعدة تصديرية وتكرس الاتصال البديل عوضا عن الاعتماد على النفط كمصدر وحيد للدخل. وضاعف الوضع سوءا البطء المتعمد في تنفيذ سياسة الخصخصة وتواضع حجمها، فلم تتجاوز حصة دول مجلس التعاون الخليجي الـ 1 في المائة من مبلغ 150 مليار دولار عام 1997 كان من نصيب الدول النامية، بالاضافة الى أن سياسة الترشيد وتقليص الانفاق التي تتبعها الحكومات الخليجية لا تتفق وأحجام الوزارات والدوائر الحكومية الكبيرة. فحجم الجهاز الاداري الحكومي لم يتقلص نسبيا مع التخفيض الذي حدث في الانفاق ككل. ولعل سياسة «التوطين» التي تتبعها دول مجل التعاون الخليجي في انظمة العمل بها، هي التحدي الاجتماعي الاقتصادي الأهم، نظرا لاستمرارية الارتفاع في نسب البطالة والاعتماد على العمالة الاجنبية من جهة وتفاوت الأداء الاقتصادي من جهة اخرى في حالات انحسار اسعار النفط. وسيكون جديرا بالمتابعة كيف ستتعامل هذه الدول مع الشروط التي ستفرضها منظمة التجارة العالمية في ما يخص انظمة العمل والمفاضلة القاعدة لدى هذه الدول التي قد تصل للتميز بين الشعوب. وهذا بالطبع سيفتح السجال أمام انظمة وقوانين العمل والأجور والإقامة والتجنس الموجودة حاليا في دول مجلس التعاون ومدى ملاءمتها للأنظمة العالمية ومدى مساواتها بين فئات شعوبها وطرفي مجتمعها، اناثا وذكورا، ومساواتهم في فرص العمل والقانون. وعليه فإن الأساس في تخطي هذه العقبة سيكون بالتركيز على خلق الوظائف بدلا من ابدال الوظائف عبر تغيير حقيقي في مناخ الاستثمار والعقليات التي تتحكم في قراراته والعمل على اعادة المال الوطني المهاجر ودعوة رؤوس الأموال الاجنبية للاستثمار بمنظومة اقتصادية متكاملة تحترم الذات وتحترم الغير، وهذا يتطلب ان يحتوي على «كل» لا أجزاء من نظام تعليمي حقيقي فعال يشارك في وضع مناهجه سوق العمل الذي سوف يستقبل خريجيه. بالاضافة الى نظام تدريبي ومعاهد متخصصة ذات قيمة اضافية تعنى بالتأهيل المهني.. نظام قانوني متطور، فعال، شفاف مؤهل، كفوء يدير أموره كادر متخصص ينظر بعيون ثاقبة لواقع اليوم للوصول الى المستقبل ولا يعتمد على مرآة خلفية تقوده للخلف. يدعم ذلك نظام إعلامي حر، شفاف يرسي قاعدة قبول الرأي الآخر والعمل به.

ان الاقتصاد الناجح ما هو الا افراز لمنظومة متجانسة تكمل بعضها البعض وبدون ذلك سيكون الواقع صورة متقدمة مهزوزة وهزيلة، وهو المطلوب والمأمول في تحويل حال ووقائع الدول من دول أوامر الى دول أنظمة وقوانين. ان الأمل كبير في ان تقود منطقة الخليج العربي بقية دول الشرق الأوسط، وآن الآوان لتحويل ما كان يطلق عليه انه نتاج حضارة خرسانية الى كيان حضاري اقتصادي يدخل بالمنطقة الألفية الثالثة. والواقع أن اجهزة «التحكم» غير قابلة للاستمرار وسط المتغيرات العالمية. وبالتالي على دول الخليج اعادة النظر في «درجات الحرارة» الموجودة لديها وتقديم الآليات والوسائل الحديثة التي تجعلها أكثر توافقا «والمناخ» العالمي.