تراجع دور الذهب كاحتياطي في المنطقة العربية

د. هنري عزام *

TT

حرصت البنوك المركزية المنتشرة في كافة انحاء العالم منذ سنوات طويلة على الاحتفاظ بالذهب كجزء من احتياطياتها، وبلغ حجم احتياطيات الذهب الموجودة لدى هذه البنوك والمؤسسات النقدية الأخرى في العالم حوالي 950 مليون اونصة في نهاية عام 2000، ويعد هذا اقل بكثير من مستويات احتياطي الذهب التي سادت خلال فترة السبعينات.

وقدر احتياطي الذهب في احدى عشرة دولة عربية هي البحرين ومصر والاردن والكويت ولبنان وعمان وقطر والسعودية وسورية ودولة الامارات العربية المتحدة واليمن بحوالي 22.5 مليون اونصة في عام 1991. وحافظ هذا الاحتياطي على مستواه السابق حتى عام 1994 لكنه تراجع تدريجياً ليصل إلى 21.29 مليون اونصة في عام 2000 أي بانخفاض بلغت نسبته 5.5% مقارنة بمستواه الذي سجل عام 1991.

وكان السبب الرئيسي لهذا التراجع حدوث انخفاض ملموس في موجودات الذهب في ثلاث دول هي الأردن واليمن وقطر، بينما لم يطرأ أي تغيير على هذه الموجودات في الدول العربية الأخرى خلال فترة التسعينات.

أما الدولة التي تمتلك أكبر احتياطي للذهب في المنطقة فهي لبنان حيث قدر حجمه بحوالي 9.22 مليون اونصة في أواخر عام 2000 تليها السعودية التي تمتلك 4.6 مليون اونصة ثم الكويت (2.54 مليون اونصة) ومصر (2.23 مليون اونصة).

ويعتبر معدل موجودات الذهب للفرد الواحد في لبنان، وهو حوالي 62.2 اونصة، الأعلى في العالم قياساً لمجموع السكان.

ومن الجدير بالذكر أن حجم مبيعات الذهب التي قامت بها البنوك المركزية في العالم فاق مجموع ما قامت بشرائه هذه البنوك خلال السنوات الماضية، ومن المتوقع أن يستمر هذا التوجه للسنوات المقبلة مما سيؤثر سلباً على أسعار الذهب، هذا مع العلم أن سعر الذهب كان قد تعرض لتقلبات عديدة وعلى مدى السنوات العشر الماضية، لكن الاتجاه العام كان نحو الهبوط.

وقد بلغ معدل أسعار الذهب عام 1991 حوالي 362.1 دولار للأونصة ثم تراجع إلى 343.8 دولار للأونصة في عام 1962 لكن ما لبث أن سجل صعوداً في السنوات الأربع اللاحقة ليصبح 387.8 دولار في عام 1996.

أما عام 1997 فكان الأسوأ في تاريخ أسعار الذهب منذ أن أصبح سعر هذا المعدن الثمين يتأثر بفعل قوى السوق.

وأقفل سعر أونصة الذهب في أواخر عام 1997 عند مستوى 289.9 دولار أي ما دون 300 دولار للمرة الأولى منذ مارس (آذار) 1985، لكن معدله خلال العام استقر عند 331 دولاراً للأونصة.

وبذلك أصبح الحد الأدنى لسعر الذهب البالغ 300 دولار للأونصة هو السقف الذي تسعى اليه الأسواق العالمية، غير أن أسعار الذهب قد تميل للتراجع هذا العام لتصل إلى أقل من 250 دولاراً للأونصة من مستوى 260 دولاراً حالياً.

وسجل معدل سعر أونصة الذهب تراجعاً آخر في عام 1999 ليبلغ 279.8 دولار ثم 279.1 دولار في عام 2000، وقدرت نسبة الانخفاض في سعر الذهب في الفترة بين 1991 و2000 بحوالي 23%.

وبالطبع فقد أدى التراجع الحاصل في أسعار الذهب خلال فترة التسعينات إلى الحاق خسائر كبيرة في قيمة احتياطي الذهب الذي تحتفظ به البنوك المركزية في كافة ارجاء العالم، حيث تراجع هذا الاحتياطي العالمي لتصبح قيمته 265.2 مليار دولار في نهاية عام 2000 مقارنة بحوالي 340.1 مليار في آخر عام 1991، مسجلاً هبوطاً نسبته 22%.

وفي المنطقة العربية هبطت قيمة احتياطي الذهب الذي تحتفظ به البنوك المركزية والمؤسسات النقدية الأخرى من 8.16 مليار إلى 5.94 مليار دولار في السنوات التسع المذكورة أعلاه.

وهذا يمثل خسارة قيمتها 2.2 مليار دولار، أو ما نسبته 27%، مما يعزز الجدل القائل إن الاحتفاظ باحتياطيات على شكل ذهب هي خطوة غير فعالة وغير اقتصادية مقارنة مع الاحتفاظ بعملات اجنبية أو أي اصول اخرى.

وبالإضافة إلى ذلك فإن الاحتفاظ بالاحتياطي على شكل ذهب يحمل في طياته تكاليف كبيرة للفرص البديلة أو الضائعة، فالذهب عادة لا يحقق مكاسب أو عائدات بعكس الأوراق المالية كأذونات الخزينة والودائع المصرفية والعملات الأجنبية.

ولقد تغير هذا الأمر خلال السنوات الأخيرة الماضية مع التطور الذي حدث في سوق التمويل التأجيري للذهب الذي مكن البنوك المركزية من الحصول على عائد صغير يقدر بحوالي 2% سنوياً (وفقاً لأجل الاستحقاق) على الذهب الذي ترغب في تقديمه سلفة أو قرضاً للسوق، لكن هذا الربح لا يزال دون المستوى الذي توفره الأصول الأخرى. ويذكر أن 118 دولة تقريباً، منها عدة دول في منطقة الشرق الأوسط تقوم بإقراض أكثر من 35% من احتياطي الذهب لديها.

وقد كانت احتياطيات الذهب تستخدم عبر التاريخ للتحوط أو الوقاية من آثار التضخم ولدعم أسعار صرف العملات المحلية. ويعتبر الذهب أحد الأصول النادرة التي لا تتعرض لتقلبات التضخم التي تؤثر في أسعار الصرف.

ومما يزيد من جاذبية الذهب كاحتياطي كونه مقبولاً على المستوى العالمي كوسيلة للدفع إضافة إلى أنه قابل للتسييل في أي وقت. وينظر اليه البعض أيضاً على أنه ضمان في حال حدوث الحروب أو في حالة فرض عزلة دولية على البلاد، خاصة إذا ما كان هذا مصحوباً بمحاولة لتجميد الاحتياطيات الأجنبية التي تمتلكها الدولة في البنوك العالمية. وفي بعض الحالات كلبنان مثلاً أصبح الاحتفاظ بالذهب ارثاً وتقليداً حال دون اقدام السياسيين على مجرد التفكير في امكانية بيع هذا المعدن الثمين.

ومع هذا لم تعد الأسباب التي تشجع على الاحتفاظ بالذهب كأصل احتياطي مقنعة جداً في السنوات الأخيرة. حيث تضاءلت معدلات التضخم في العالم وأصبح من الصعب بمكان استخدام الذهب كوسيلة للدفع، اذ لم يعد مقبولاً من الجميع، اضافة إلى أن القيام بتجميد الاحتياطيات الأجنبية في الدول التي تعاني من الحروب أو من عزلة دولية مفروضة عليها لا يستثني الذهب، وغالباً ما تمنع تلك الدولة من التصرف باحتياط الذهب المتوفر لديها. كل هذا اضافة إلى التوقعات التي تشير إلى ان استمرار التدهور الحاصل في اسعار الذهب عالمياً ولد قناعة لدى البنوك المركزية في العديد من دول العالم بأهمية البيع التدريجي لمعظم ما تمتلكه من احتياطي الذهب والتحول إلى الأصول الأخرى التي تدر دخلاً.

وهناك احتمال بأن يواصل سعر الذهب تراجعه ليصبح دون مستوى 250 دولاراً للأونصة خلال العام الحالي في ظل الظروف السائدة في السوق، ومنها الانكماش الحاصل في معدل النمو الاقتصادي في الولايات المتحدة واليابان، والذي يؤثر سلباً على مبيعات المصوغات الذهبية اضافة إلى الزلزال الذي حدث في الهند أخيراً والتي تعتبر أكبر دولة مستهلكة للذهب في العالم سوف يقلص من حجم الطلب على المجوهرات هناك. والأهم من هذا هو ما تقوم به شركات التعدين من بيع انتاجها السنوي في السوق الآجلة لتثبيت الأسعار خوفاً من الخسائر التي قد تتعرض اليها نتيجة حدوث انخفاض جديد في سعر الذهب.

وبالتالي فإن هذه الأمور كلها التي تهدف إلى اتباع برامج تحوط ووقاية من انخفاض اسعار الذهب تشكل ضغوطات على الدول المنتجة للذهب لتثبيت سعر المعدن الثمين في المستقبل.

اضف إلى ذلك اعلان صندوق النقد الدولي وبنوك مركزية عديدة في أوروبا عن نيتها الاستمرار في بيع احتياطي الذهب لديها في السنوات المقبلة بشكل تدريجي ومنتظم.

واذا ما استمر تراجع اسعار الذهب على المدى القصير والطويل فإن الدولة العربية الأكثر تأثراً بهذا التوجه هي لبنان، لأنها تمتلك الاحتياطي الأعلى من هذا المعدن الثمين في المنطقة العربية، استناداً إلى المقاييس النسبية والمطلقة المتبعة عالمياً.

ورغم أن القيام ببيع احتياط الذهب يعتبر خطوة حساسة ولها ابعادها السياسية في لبنان، غير ان هناك ضرورة ملحة لتقبل فكرة تأجير جزء أو كامل ما تمتلكه الدولة من احتياطيات الذهب، وذلك للاستفادة من الدخل الذي قد يتحقق من جراء ذلك. فالدولة بحاجة إلى أي عائد اضافي تستطيع الحصول عليه، والذي قد يساعدها على تقليص حجم العجز في الموازنة الذي وصل إلى مستويات مرتفعة.

* كبير الاقتصاديين وعضو منتدب بمجموعة الشرق الأوسط للاستثمار