السعودية: حرب شرسة بين المستشفيات الحكومية والخاصة على اقتسام كعكة السوق

المستشفيات الخاصة: السماح لـ«التخصصي» بتقديم العلاج بمقابل مادي أضر بمصالحنا

TT

تلوح في أفق القطاع الصحي السعودي، بوادر معركة وجود بين المستشفيات الخاصة ونظيراتها المرافق الطبية الحكومية، وبينما تتهم الأولى المستشفيات الحكومية بتسببها في فقدان جزء من مداخيلها المالية، وانكماش حصتها في السوق المحلية بمنافسة غير عادلة، تعلل المستشفيات الحكومية موقفها الجديد بقرار وزارة الصحة السماح لعدد من مستشفيات القطاع العام بتقديم خدمات طبية لكافة المرضى بأسعار رمزية.

ووفقا لمستثمرين في القطاع الطبي التقتهم «الشرق الأوسط»، فإن انعدام مبدأ التكافؤ بين القطاعين يعود إلى مطالبة القطاع الخاص بتوفير الكادر الطبي والأجهزة التقنية الطبية المتطورة لتواكب ما وصل إليه العالم في هذا الخصوص على حسبها، بينما تلقى المستشفيات الحكومية دعما كاملا من قبل الدولة، وبالتالي لا ترهقها مثل هذه التكاليف الباهضة، وما يزيد الأمر سوءا أن كلا القطاعين مطالبان بعرض ذات الخدمة وبنفس السعر، إن لم تكن بشكل أقل لدى الحكومي في بعض الأحايين.

ويُرجع مسؤولون حكوميين هذا الجدل إلى رغبة ملاك المستشفيات الخاصة احتكار تقديم الخدمة العلاجية للمرضى، بكلفة مالية عالية يتم تحديدها وفق ضوابط خاصة بهم، بينما يمكن تقديم هذه الخدمة لكافة شرائح المجتمع بسعر أقل وتقنية أفضل مما هي عليه الآن، مع تحقيق هامش ربحي جيد لا يقل عن 5 في المائة، وأضافوا أن القطاع الخاص ينسى أو يتناسى أن 80 في المائة من المرضى الذين تتم معالجتهم في المرافق الحكومية تتحمل عدد من الجهات الحكومية والخيرية نفقات علاجهم.

من جهته، شن الدكتور سليمان فقيه مالك مستشفى «فقيه» أحد المستشفيات الطبية في جدة، هجوما على وزارة الصحة، واصفا خطوتها بالعمل على إجهاض جهود القطاع الخاص، في مقابل تيسير مهام القطاع العام. ويدلل الدكتور فقيه على ذلك بعدم السماح بدخول أدوية معتمدة من وكالة الأغذية والأدوية الأميركية، كذلك إصدار العديد من التشريعات والقرارات المحبطة وبشكل شبه يومي للقطاع الصحي الخاص، كان آخرها السماح لمستشفيات «الملك فيصل التخصصي» المدعومة من الديوان الملكي بتقديم الخدمة الطبية للمرضى بتكلفة رمزية، ولجميع فئات المجتمع.

واستشهد الدكتور فقيه على هذا الموقف المتصلب من قبل وزارة الصحة، في تقديم عدد من الاستشاريين العالميين العاملين لديها لاستقالاتهم، كونهم لم يجروا في الفترة الأخيرة أي عمليات جراحية دقيقة، وتحديدا بعد أن بدأ مستشفى «التخصصي» بتقديم هذه الخدمة للمرضى بأسعار رمزية، حيث قام الأخير بتخفيض تكلفة بعض العمليات المعقدة كالقلب المفتوح وجراحة المخ والأعصاب وغيرها من 50 ألف ريال كتكلفة معتمدة في معظم المراكز الطبية السعودية والعالمية إلى 25 ألف ريال فقط لجميع المرضى.

ويعزو الدكتور فقيه تعطيل وزارة الصحة لمشروع التأمين الطبي الذي طرحت فكرته لأول مرة قبل 7 أو 8 أعوام، الى يقين المسؤولين في الوزارة أن هذا النظام سيعيد المعادلة العلاجية إلى وضعها الطبيعي. ويعتقد الدكتور سليمان فقيه أن السبب الرئيس في حملة الوزارة على القطاع الصحي الخاص مرجعه التفوق الكبير الذي حققه هذا القطاع في العقدين الماضيين، وسحبه للبساط من تحت أقدام القطاع الحكومي، الذي تجمد عند انجازاته السابقة التي حققها في تلك الفترة. و يخالف الدكتور أحمد التيجاني مساعد مدير عام مستشفى «باقدو والدكتور عرفان»، ما ذهب إليه الدكتور فقيه، معتبرا أن السماح للقطاع الصحي الحكومي بممارسة العمل التجاري تعد خطوة جيدة، ستحول المنافسة بين القطاعين من الاعتماد على التكلفة المادية فقط، إلى نوعية الخدمة الطبية المقدمة، وكذلك السرعة في تقديمها.

ويتساءل التيجاني: هل لدى مستشفيات القطاع الحكومي القدرة على استيعاب جميع المرضى؟ وهل المرضى سيكون لديهم من الصبر ما يكفي للانتظار أشهر طويلة لإجراء عمليات معقدة ولا تحتمل التأخير لمجرد أنها تحظى بسعر منخفض؟ الجواب بالتأكيد لا.

ويقترح الدكتور التيجاني حلا لذلك يتمثل في وضع جدول زمني من قبل القطاع الخاص، قبل الإقدام على تخفيض التكلفة العلاجية، اذ يجب معرفة أي المجالات التي ستشهد هجرة المرضى لها من القطاع الخاص إلى العام، وما هو الحجم الذي ستستوعبه هذه المستشفيات من مرضى، ورغبة المرضى أنفسهم في الانتظار على حساب التكلفة المادية.

وأشار الدكتور التيجاني إلى أن الحديث عن وجود مغالاة في المستشفيات الخاصة لا أساس له من الصحة، حيث أن التكلفة العلاجية لهذه المستشفيات عالية جدا، فهي تعتمد على مستوي الخدمة الطبية، وكفاءة الجهاز الطبي والتمريضي والفني، وحجم التجهيزات الفنية، إضافة إلى تأسيس البنية التحتية للمستشفى، وبعد ذلك تحقيق هامش ربحي مقبول لا يتعدى 10 في المائة في غالب الأحيان. ويعتقد الدكتور التيجاني أن أي تخفيضات ستصيب التكلفة العلاجية ستكون على حساب الهامش الربحي الذي يجنيه ملاك هذه المستشفيات، كي لا تخسر ما تبقى لها من مرضى.

وعن التأمين الطبي التعاوني المقرر تطبيقه قريبا على غير السعوديين كتجربة أولية، يرى الدكتور التيجاني أن النظام الجديد درس بشكل جيد ووضع بشكل مرن، بحيث يستوعب التعديل في حالة وجود ثغرات تستوجب التغيير.

أما الدكتور عبد الرحمن بخش مالك مستشفى «بخش»، فاختصر المسافة بينه وبين «التخصصي» وأجرى لقاءات مطولة مع مسؤوليها، شرح خلالها أبعاد هذا الإجراء والآثار التي قد تترتب عليه، والتي لخصها في التالي: ـ أن يكون لكل مواطن الحق في تلقي العلاج المناسب، وبالتكلفة المناسبة، ولكن كيف يكون هذا العلاج؟ والمعروف أن مستشفيات التخصصي تلقى دعما حكوميا يجعل تكلفتها صفر في المائة، وأي مبالغ سترد إلى خزانتها ستكون عملا جيدا، بعكس المستشفيات الخاصة التي تعتمد على ذاتها في تجهيز كادرها الطبي والتقني والفني، وهي استراتيجيات مكلفة جدا.

ويعتقد الدكتور بخش أنه لو لم يكون هناك تنظيم محدد ومعروف للجميع ستُقدم هذه المستشفيات على إحدى الخطوات، إما استبدال كادرها الطبي الحالي والذي يغلب عليه الفريق الاوروبي الغربي والاميركي، ومن ثم التوجه إلى أطباء أوروبا الشرقية الأرخص في التكلفة والأقل في الكفاءة، وهذا لن يكون مقبولا من قبلنا، انطلاقا من مبدأ عدم التلاعب بصحة المرضى. ويكمن الحل الآخر من وجهة نظر الدكتور بخش في إغلاق بعض الأقسام الطبية المتخصصة مثل جراحة القلب المفتوح، المخ والأعصاب، نقل الأعضاء، وهذا الإجراء سيترتب عليه انتقال المرضى من المستشفيات الخاصة إلى الحكومية، مما سيولد قائمة طويلة من المرضى الذين ينتظرون العلاج، وهنا إما سينتقلون للخارج لتلقي العلاج كما كان يجري قبل 25 عاما، أو يموتون وهم في قوائم الانتظار.

وهنا يحدد الدكتور عبد الرحمن بخش المطلوب، في إلغاء الدعم الحكومي عن مستشفيات القطاع العام، بحيث يكون هناك توازن في قوى القطاعين، أو ان تقدم الدعم بالمثل للقطاع الخاص، أو أن يكون هناك تنظيم دقيق للعمليات الجراحية تحديدا، بحيث تتفرغ المستشفيات الحكومية للعمليات الكبيرة والدقيقة منها، والتي عادة ما تكون مكلفة ماديا على عموم المرضى، وبالتالي تنصرف المستشفيات الخاصة إلى إجراء باقي العمليات، التي تهيأت لها برفع مستوى الكفاءة وتطوير البرامج.

من جهته، يرى الدكتور محمد مطبقاني مدير مستشفى «جدة الوطني الجديد»، أن الحل في تخفيض التكلفة العلاجية يمكن تحقيقه بما يتوائم مع قدرة المرضى المادية، وذلك من خلال إقامة مراكز طبية وخدماتية مشتركة بين جميع المراكز الطبية الخاصة، كإنشاء وحدات للأشعة، المختبرات، الطوارئ، وغيرها، وتقسم التكلفة الكلية لهذه التقنية على الجميع، ما يساهم في خفض أسعار هذه الخدمات على المرضى وصولا لتلك التي تطرحها المستشفيات الحكومية، كما أن الشراء الموحد من قبل جميع المستشفيات يساعد على تخفيض قيمة العلاجات والأجهزة الطبية والكماليات العلاجية المشتراة. وأضاف الدكتور مطبقاني، أن الجميع يتطلع إلى تطبيق الضمان الصحي التعاوني والنظام الصحي المقترح من قبل وزارة الصحة، نظرا لدوره الايجابي في رفع مستوى الخدمات الصحية المقدمة للمستفيدين من قبل القطاعات الصحية المختلفة. مشيرا إلى أن نظام التأمين الصحي الجديد ينص على أحقية المستشفيات الحكومية في تقديم خدماتها بالمقابل المادي في المناطق التي لا يوجد فيها قطاع خاص. على خلفية ذلك يكون الحديث عن وجود منافسة بين القطاعين حديثا مفتعلا، حيث أن النظام الجديد كفل للقطاع الخاص حقوقه.

واستدرك الدكتور مطبقاني قائلا: إن ما تقدمه «التخصصي» الآن من خدمات طبية بمقابل مادي يعد استثناء، ومع هذا لم نغفل الحوار مع مسؤوليها لتنظيم هذه العملية لما يخدم جميع الأطراف. ويخالف الدكتور مطبقاني جميع المنادين بوضع تسعيرة علاجية ثابتة في جميع القطاعات الصحية الخاصة، حيث يعتقد أن وضع هذه التسعيرة يجب أن يكون مبنيا على مبدأ العرض والطلب، بما في ذلك الخدمات الطبية والفندقية والتجهيزية، والأخيرة مهمة جدا حيث تختلف المستشفيات الخاصة في مستوى التجهيزات والمعدات الطبية بما يتماشى أيضا مع ذات العوامل.

وعليه فإن التباين في أوجه الخدمة الطبية وطرق تقديمها يجعل من الصعب جدا وضع سقف موحد للتسعيرات، إذاً يكمن الحل في تشجيع العمل على تطبيق معايير الجودة النوعية على كافة الخدمات المقدمة، من خلال التنافس الشريف ومراعاة أخلاقيات المهنة.

وإذا كانت هذه آراء الطرف الأول، أي القطاع الخاص، فإن الطرف الآخر لديه مبرراته للرد عليهم، حيث يؤكد الدكتور سلطان باهبري مدير مستشفى «الملك فيصل التخصصي» في جدة، أن الحديث عن وجود منافسة مع مستشفيات القطاع الخاص هو ادعاء غير منصف لعدة اعتبارات أهمها: أن القدرة السريرية للتخصصي 200 سرير، يتم شغل نحو 160 سريرا منها لمعالجة مرضى على نفقة الديوان الملكي، وهكذا نرى أن الضجة المفتعلة حاليا تتمحور حول 40 سريرا فقط، وحين تحدث هذه الأسرة المحدودة كل هذه الضجة، فهذا يدل على وجود خلل كبير في الآلية التي تتم بها إدارة المستشفيات الخاصة.

وأضاف الدكتور باهبري، أن مستشفى «التخصصي» يقدم نحو 9.8 ألف خدمة طبية مختلفة، والمستشفيات الخاصة لا تستطيع تقديم هذا العدد من الخدمات حتى ولو اجتمعوا معا، فعلى سبيل المثال لا الحصر نقدم في «تخصصي جدة» 60 نوعا مختلفا من عمليات القلب المفتوح، التي تتراوح أسعارها ما بين 10-120 ألف ريال، في حين لا تتعدى العمليات التي تقدمها باقي المستشفيات الخاصة عن 10 أو 15 عملية. والسؤال الذي يطرح نفسه هل نترك نحو 50 عملية يحتاجها المجتمع الطبي دون أن نتقدم بإجرائها لأن القطاع الخاص يعتبر عملنا منافسة غير شريفة؟

وأرجع الدكتور باهبري أسباب انخفاض كلفة العمليات بين القطاعين إلى اعتماد التخصصي على محورين في إجراء العمليات، الأول أن العمليات البسيطة يتم إجراؤها خلال يوم واحد ونسميها «عمليات اليوم الواحد»، ولا يحتاج المريض للبقاء في المستشفى لأكثر من يوم، وبالتالي تنخفض قيمة الفاتورة العلاجية. ثانيا العمليات المعقدة ونحن هنا نعتمد على البرامج العلاجية المتكاملة وتحديدا برنامجCPT، الذي يختزل تكلفة العمليات على المريض، دون المساس بجودة الخدمة الطبية المقدمة. من جهة أخرى، أكد مسؤول كبير في وزارة الصحة السعودية ـ طلب عدم ذكر اسمه، أن الحديث عن وجود دعم حكومي أحادي الاتجاه لمستشفى «التخصصي»، والمطالبة بإلغائه لتحقيق مبدأ التكافؤ بين القطاعين خال من الصحة، حيث أن جميع القطاعات الصحية الحكومي منها أو الخاص، حظي بدعم كبير من الدولة، ولكن عادة ما يكون هذا الدعم مختلفا في الشكل والمضمون، فمثلا جميع المستشفيات الخاصة حصلت على قروض وتسهيلات بنكية من الدولة عند قيامها، وقد شيدت هذه المستشفيات على أراضٍ ممنوحة من قبل الحكومة، واستفادت من إلغاء الضرائب على التجهيزات الطبية المستوردة.

ويضيف المسؤول، يخطئ مسؤولو القطاع الخاص في تقديراتهم إذا راهنوا على نجاحهم برفع التكلفة العلاجية على المرضى لتحقيق ربح سريع وكبير، حيث يعلم العاملون في القطاع الطبي أن الاستمرار في هذا المضمار مرهون بحجم السوق الكبير، ويكفي القول أن معظم المراكز الطبية المتخصصة في الولايات المتحدة الأميركية لا يتعدى هامش ربحها السنوي 5 في المائة، في حين تحقق بعض المستشفيات السعودية الخاصة أرباحا تصل إلى 16 في المائة.