البيئة: الفاتورة الاقتصادية

حسين شبكشي *

TT

منذ ظهور حركات انصار البيئة في اوروبا في الستينات وتحولهم الى احزاب سياسية فاعلة وناشطة تحولت البيئة الى موضوع سياسي واقتصادي عالمي. وبدأت دول غربية مختلفة بتقويم سياسات عامة واخضاعها لمبدأ القبول البيئي. وقد انعقدت العديد من المؤتمرات الدولية المهمة لتكريس تلك السياسة ووضع ضوابط صارمة لها فكانت التوجهات التي تبدأ على المستوى البلدي حتى الفيدرالي سببا اساسيا في تطوير فكر الانتماء الوطني واداة لتطوير مناخ العمل والعيش. ولا يزال العالم العربي بعيدا عن هذا الفكر ومنافعه.

فبالرغم من استحداث وزارات وهيئات ومؤتمرات ومعارض وادارات متخصصة في البيئة الا ان النتائج لا تزال دون المأمول بكثير، وتئن مدن عربية عديدة تحت ضغط الانهيار والتسيب البيئي. فالقاهرة التي ما زالت تئن بشكل لافت من جراء تفاقم التلوث البيئي، اصابتها كارثة اخرى وهي السحابة السوداء التي هلت على سمائها بسبب حرق قش الأرز بدون وعي. كما تئن دمشق بيئيا بسب كثافة عدد السيارات وارتفاع نسبة الهجرة السكانية اليها بدون تخطيط كاف. وتعاني مدينة جدة مر المعاناة بسبب عدم وجود شبكة متكاملة للصرف الصحي ونظام لتصريف مياه الامطار. اضافة الى ان السودان ولبنان كانا مثار جدل وسجال بخصوص انباء عن دفن نفايات سامة فيهما. وغير خاف ايضا الضرر الهائل الذي حدث لجبال لبنان الجميلة جراء استعمال الكسارات فيها وتشويهها. ولا ننسى ان الشواطئ العربية نالها من ذلك نصيب ليس بقليل، فكانت على موعد مستمر لاستقبال مخلفات الصرف الصحي والنفايات الصناعية والكيمياوية مما ادى الى تدهور حاد في الحياة البحرية والمرجانية.

وظهرت بسبب ذلك الوضع البيئي المتدهور امراض جديدة وخطيرة كحمى الوادي المتصدع والحمى القلاعية وارتفاع حاد في معدلات التهاب الكبد الوبائي في الانسان بالاضافة الى تفاقم امراض الحساسية والامراض الجلدية والعيون.

لقد اخفقت الحكومات العربية الى الآن في الاتيان بسياسة وقائية جادة تتيح استغلال البيئة ونفاياتها الاقتصادية بشكل مقنن وتحد من تداعياتها. وقدرت دراسة حديثة شاملة ان خسارة الدول العربية تبلغ 5 مليارات دولار سنويا لعدم تدوير نفاياتها. واوضحت الدراسة ان كمية المخلفات في الوطن العربي تبلغ نحو 89.6 مليون طن سنويا وتكفي لاستخراج نحو 14.3 مليون طن ورق قيمتها ملياران و145 مليون دولار، وانتاج 1.8 مليون طن حديد خردة بقيمة 135 مليون دولار بالاضافة الى حوالي 75 ألف طن بلاستيك قيمتها 1.4 مليار دولار فضلا عن 202 مليون طن قماش بقيمة 110 ملايين دولار، والاسمدة العضوية والمنتجات الاخرى بقيمة تتجاوز مليارا و225 مليون دولار. كما ذكرت الدراسة ان الخسائر العربية لاهمال تدوير النفايات لا تقف عند حد قيمة المنتجات التي يمكن الحصول عليها من عمليات اعادة التدوير وانما تمتد الى تكلفة دفن هذه المخلفات ومقاومة الافات والحشرات الناتجة عنها، موضحة ان الدول العربية تنفق في هذا المجال نحو 2.5 مليار دولار سنويا لمقاومة الاضرار الناتجة عن حوالي 1353 مليون طن من المخلفات الحيوانية، و196.5 مليون طن من المخلفات الزراعية، مقابل 18870 مليون متر مكعب من مياه الصرف الصحي، مشيرة الى ان اجمالي ما يتم جمعه من هذه المخلفات لا يوازي سوى 50% من حجمها وان تكلفة جمع ودفن هذه المخلفات تتجاوز 850 مليون دولار، فضلا عن 1.7 مليار دولار اخرى لمقاومة الاثار البيولوجية والصحية والنفسية لتلك النفايات.

ووصفت الدراسة الاستثمارية العربية الموظفة في مجال تدوير النفايات بصفة عامة، والصلبة بصفة خاصة، بأنها متواضعة ومحددة ولا تتجاوز 200 مليون دولار، وان معظم هذه المشروعات لا تتجاوز كونها محاولات فردية وبامكانات ضعيفة، في الوقت الذي يجب فيه انشاء صناعات متكاملة وقوية قادرة على اعادة تدوير المخلفات والاستفادة مما تنتجه من ورق وزجاج واسمدة وبلاستيك كمستلزمات انتاج في صناعات عديدة. ان صناعة تدوير المخلفات باتت من اهم الصناعات الواعدة في العالم، حيث تستحوذ على 28% من اجمالي الاستثمارات الصناعية في الولايات المتحدة الاميركية، و23% في بريطانيا، و35% في المانيا. والآن بدأت بعض المبادرات من القطاع الخاص في اكثر من دولة عربية لاحياء الوعي البيئي وتكريس العمل المؤسسي لطرح حلول لمشاكل حيوية قائمة. فقامت بالسعودية شركة جدة القابضة بتقديم حلول لمشكلة الصرف الصحي عبر دراسات دقيقة وحلول عملية. كما قامت شركة سوكلين بلبنان بتطوير آليات الخلاص من النفايات بطرق متطورة. وقامت محافظة الاسكندرية بطرح مناقصة للقطاع الخاص معنية بجمع النفايات وتدويرها في سابقة جادة.

ولكن لا بد ان يأتي التشجيع متجانسا واتجاه الدولة، فيجب تشجيع الصناعات التي تعتمد على تدوير النفايات كأحد عناصرها، علما بأن الصناعات بحاجة الى دعم كبير لتحفيز المستثمرين على الدخول في هذه الصناعات، ويشمل الدعم تقديم مبالغ محددة من قبل الدولة للمستثمر مقابل كل طن ينتجه من المنتجات الصناعية المعتمدة على النفايات، مثل الاسمدة وورق الصحف وورق الكرافت المستخدم في صناعة الصناديق وحبيبات البلاستيك وكذلك صفائح الالومنيوم، وهذا النظام يعمل به في اميركا، حيث يدفع للمصنع نحو 100 دولار على كل طن تم تصنيعه، وفي المانيا يحصل المصنع على نحو 80 دولارا مقابل انتاج الطن. الا ان الطموح ان تكون لدينا سياسة بيئية متكاملة تترابط معها وتنفذها كافة قطاعات الدولة. فحجم الفواتير التي تتكبدها وزارات الصحة، المواصلات، الزراعة، البلديات، الاشغال العامة، الموانئ وغيرها، يعتبر حجما هائلا، وبقليل من التنسيق والكثير من العمل الجدي نستطيع تكوين منظومة بيئية متطورة توفر علينا الكثير من المال والجهد والصحة وتعيد الكثير من الامور الى نصابها. ليست التنمية الصحيحة ضد البيئة. فالاساس تأمين نوعية حياة جديدة لجميع الناس تحمل مقومات الاستمرار في توازن مع محدوديات الطبيعة والخدمات الاساسية من مياه نظيفة وشبكات صرف وكهرباء ومواصلات حديثة، اضافة الى خلق فرص للنمو الاقتصادي كلها تساعد على تحسين الوضع البيئي، اذ ان الاستقرار الاقتصادي شرط اساسي للاستقرار البيئي فالمجتمع الذي يتمتع بالاكتفاء والواثق بنفسه هو وحده المؤهل لحمل لواء رعاية البىئة والتخطيط للمستقبل.

المطلوب اعلان حالة طوارئ بيئية توقف فورا كل تخريب بيئي وتضع سياسة بيئية صريحة وبرنامج عمل محدد بجدول زمني. الادارة البيئية المطلوبة ليست ملحقا يضاف الى البرامج الانمائية، بل هي جزء عضوي منها. لقد آن الاوان للانتقال من طرح الشعارات البيئية في المناسبات الى تعيين اهداف محددة لمعالجة مسائل مثل مصادر تلوث الهواء والماء والفوضى في وجهة استعمال الاراضي وتنظيم الصناعة.

اننا بما نوفره اليوم من حماية بيئية حقيقية نكون قد ادينا دورنا بأمانة شرعية كما طلب منا. أما باهمالنا لذلك فإننا ندمر حاضرنا لأنفسنا ومستقبلنا لأبنائنا، واذا اهملنا فرصا عديدة لايجاد مستقبل انصع لهم في الماضي الا يمكن ان تكون البيئة مفتاح ذلك اليوم؟

* كاتب سعودي