الخلل .. آلية صناعة القرار في العالم العربي

حسين شبكشي

TT

هناك حالة واضحة وصريحة من انعدام الثقة على الصعيد الشعبي العام في العالم العربي في ما يخص القرارات الرسمية التي يتم اتخاذها. ويرجع هذا بشكل أساسي لغياب الأسلوب المؤسسي لإعداد ودراسة واصدار القرار ومن ثم تنفيذه، فبالتالي يكون القرار خاضعا للإرادة الفردية المطلقة «وتغلفه» أهواء معينة واضحة في بعض الأحيان ومجهولة في أحيان أخرى. ولعل أهم ضحايا هذا النهج في الفكر وأسلوب التطبيق هو الاقتصاد، فغياب مراكز الدراسات عن صناعة القرار وتغييب الاحصاءات والبيانات المساندة تحت عباءة الأمن والسرية يجعلان أي قرارات تصدر معتمدة على همس المجالس أو تقارير من ضعاف النفوس غير مستندة إلى معايير ومقاييس واضحة. وعندما نبحث عن دور المراكز في صناعة القرار، فليس المقصود بذلك القرار السياسي أو الأمني أو العسكري فقط، بل أيضا القرار الاقتصادي والإعلامي والثقافي، لأن القطاعات كافة متساوية من حيث الأهمية ولها دورها المميز في بناء المجتمع، اضافة إلى ذلك فإننا عندما نتحدث عن صناع القرار فلا نعني بذلك فقط القادة وكبار المسؤولين الأمنيين، بل أيضا المتمولين ورجال المال والأعمدة والقادة الشعبيين والوجهاء وغيرهم، لأن كلا منهم صانع قرار في مجاله ولأن كلاً منهم بحاجة إلى الدراسة المختصة التي تعينه على اتخاذ القرار المناسب بدلا من المراهنة فقط على التجربة، فتطورات العصر باتت تستوجب وجود مراكز دراسات لصناعة القرار، كما باتت تستدعي انفتاح صناع القرار على مراكز الدراسات. ولم تسلم جل الدول المتقدمة بأهمية الدراسات الاستراتيجية الاقتصادية إلا أخيرا أي بعد سقوط جدار برلين وانهيار الأنظمة الشيوعية وظهور نوع من الفراغ على المستوى العقائدي، حيث ان العالم كان يسوده نوع من التوازن العقائدي، وحيث ان النظام الرأسمالي لم تكن لديه الحلول السريعة الكفيلة بفرض الايديولوجيا الرأسمالية داخل اقتصاديات منهارة وفاقدة لكل مقومات اقتصاد السوق، أي مقومات المنافسة المبنية على عنصر الوفرة وعلى الأسعار الحقيقية. وكانت لهذا الوضع نتيجة حتمية تتمثل في إفراز وضع يصعب التكهن بما سيؤول إليه، وهو ما دفع بالعديد من البلدان إلى الدخول في عمليات تقييم قدراتها الذاتية وتقويتها عبر التكتلات الاقتصادية الإقليمية واتخاذ الإجراءات الوطنية اللازمة وإتمام الاتفاقيات حتى تتمكن إما من مقاومة ما سيأتي به مستقبلا الوضع الاقتصادي العالمي الجديد، أو المشاركة بصفة عملية في إعطاء الأحداث الدولية اتجاها يخدم مصالحها.

وفي هذا الاطار باتت هذه الدول تمنح أولوية كبرى لطبيعة علاقتها مع الخارج وتحاول وضع استراتيجيات عمل تمكنها عبر مرحلتين متتاليتين: ـ من تهجين الظواهر العالمية المتغيرة وذلك عبر ادراك مداها واستيعابها في اطار آليات الاقتصاد الوطني. ـ ارساء سياسات وطنية تستطيع امتصاص جل التأثيرات السلبية لهذه الظواهر، وذلك بصفة فعلية، خاصة التأثيرات السريعة الانتشار داخل الاقتصاد الوطني. وهذه الاستراتيجيات توضح في حد ذاتها تغييرا مهما جدا على مستوى طبيعة التعامل مع العوامل الخارجية وهي طبيعة تتمثل في بروز نظرة جديدة وتصور جديد لدور الوطن داخل دائرة التبادل العالمي، حيث ان الاقتصاد الوطني لم يعد مجرد أرضية تتفاعل فيها تأثيرات الظواهر العديدة والمتغيرة الخارجية، وإنما أصبح فاعلاً أساسياً على الساحة العالمية حيث بإمكانه ليس فقط الحد من التأثيرات السلبية للظواهر الخارجية، وإنما توظيف هذه التأثيرات بشكل جيد لخدمة أهدافه: تحسين تمركز السلع الوطنية في السوق العالمية وتقوية سرعة انتشارها داخل الفضاء الكوني. وهو ما يعني بشكل أوضح أن استكشاف الظواهر الخارجية والتهيؤ لامتصاص تأثيراتها السلبية أصبح مقترنا بقدرة الاقتصاد الوطني على قلب ميزان القوى، حيث يقوم الاقتصاد بهضم هذه التأثيرات هضماً جيداً مستمداً منها القوة اللازمة لتحسين أدائه وتقوية قدراته على حسن التمركز على الساحة العالمية، ومن هنا تبرز لنا طبيعة التغيرات الحالية على مستوى طبيعة الأهداف، حيث إن دعم قوة الاقتصاد في الداخل أصبح مرتبطاً بشكل كلي بدعم قوة الاقتصاد على المستوى العالمي كافة لدعم نشاطه الداخلي. وهذه النظرة الاستراتيجية الجديدة التي ميزت جل البلدان الصناعية الجديدة الآسيوية، هي التي من شأنها أن تمكن الاقتصاد الوطني من إيجاد الحل النهائي ليس بالنسبة لدعم الوجود على الساحة العالمية، وإنما لدعم قدراتها الانتاجية الذاتية التي يصبح نموها أسرع، فالنمو السريع للناتج الوطني يصبح رهينا لحسن تمركز الاقتصاد على الساحة العالمية الذي بدوره يكون مرتبطا بقدرته على امتصاص التأثيرات السلبية الخارجية وهضمها ثم توظيفها داخليا في إطار البرامج الانتاجية ذات البعد الاستراتيجي. أما عن الأهداف المرجوة من الدراسات الاستراتيجية الاقتصادية العربية، تتطلب الأهداف قبل كل شيء وجود رؤى واضحة المعالم والمرامي يسعى الاقتصاد العربي انطلاقا منها، إلى تحديد شكل ومضمون ومسار التطور الاقتصادي والاجتماعي الذي يجب الوصول إليه في الأمد الطويل. الشيء الذي يدعو بالضرورة الى تحديد المبادئ التي يتعين على الاقتصاد الوطني اتباعها قصد النمو في ظلها مع تمكين الاوضاع الاجتماعية والاقتصادية للمجتمعات الوطنية العربية من التلاؤم معها خلال الفترة الطويلة المقبلة.

وسوف تؤثر هذه المبادئ في النهاية في بلورة وتجسيم دالة المفاضلة الاجتماعية التي يسعى الاقتصاد الوطني الى تعظيمها بأقل التكاليف وأفضل المنافع. من جهة أخرى، تقتضي هذه الأهداف كذلك، ضرورة وجود تصور واضح حول التغيرات الهيكلية المفيدة للاقتصاد العربي التي تمكن الأفراد من الاستخدام الرشيد للموارد الاقتصادية والبشرية المتاحة وطنيا والاستعمال الأمثل للتكاليف كما تنادي به اليوم النظريات الاقتصادية النيوكلاسيكية، مما يتطلب بدوره رؤية طويلة المدى عن القطاعات السلعية والخدمية العربية الواجب انماؤها على نحو معين التي تتميز بثقلها الكبير في سيرورة التنمية، وتتحكم في أية استراتيجية تنموية اقتصادية صحيحة. أخيرا يظل التعرف الدقيق للهياكل الاقتصادية والاجتماعية للاقتصاد الوطني وتطورها عبر الفترات الزمنية المنصرمة اعتماداً على الثوابت والمتغيرات التي تحكمت في سماتها الأساسية الحالية، مما يفترض أجهزة تخطيطية لرسم الاستراتيجية المقبلة. تلك الاستراتيجية التي ترتكز وجوبا على عديد من القضايا الرئيسية بالنسبة لنمو الاقتصاد الوطني في الأمد الطويل، وعلى بعض العلاقات الارتباطية بين مختلف القطاعات الاقتصادية والاجتماعية الأساسية في سيرورة النمو الطويل الأجل. وهذا لن يتأتى إلا بتغيير جذري في نهج صناعة القرار وتنفيذه والابتعاد عن النمطية السائدة التي خلفت تركة مريرة نحن في غنى عنها. ولعل بدء تقويم أسلوب صناعة القرار والعمل بنهج المشاركة والدراسة سيكون أول طرق العلاج لوضع استفحل وطال أمره.