خدمات الموانئ السعودية .. نموذج في التخصيص

محمد بن عبد الكريم بكر *

TT

تواجه كثير من الدول اليوم تحديات حقيقية في إطار استعداداتها للمشاركة في سباق الانفتاح التجاري العالمي، وما يتطلبه هذا السباق من تطوير وإصلاحات للمؤسسات الاقتصادية، التي على ضوئها سيتم تحديد مركز كل مشارك.

وبالنسبة للسعودية، التي تتمتع بأكبر اقتصاد في المنطقة، فقد أعلنت منذ حوالي أربع سنوات في 18 مارس (آذار) 1997، عن سياستها لتوفير الفرص أمام القطاع الخاص للاستثمار في المرافق العامة، وإدارتها وتشغيلها، وقد أكد هذه السياسة خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز، في أكثر من مناسبة، كان آخرها في خطابه السنوي لمجلس الشورى.

كما أن الأمير عبد الله بن عبد العزيز، ولي العهد نائب رئيس مجلس الوزراء ورئيس الحرس الوطني، أكد في كلمته في المدينة المنورة، أن التخصيص يعد خيارا استراتيجيا في سياسة السعودية الاقتصادية، وقد نص تنظيم المجلس الاقتصادي الأعلى على أن احدى الغايات الأساسية لسياسة السعودية الاقتصادية دعم برنامج الحكومة للتخصيص، ويتولى المجلس مسؤولية الإشراف على برنامج التخصيص ومتابعة تنفيذه إثر صدور قرار مجلس الوزراء رقم 257 في 1421/11/11هـ.

وتمثل الموانئ السعودية في مجموعها، أكبر منظومة للموانئ في الشرق الأوسط، وتضطلع بدور مهم في خدمة الاقتصاد الوطني، حيث يمر عبرها سنويا %95 من صادرات وواردات السعودية، وهناك سفينة بمعدل كل نصف ساعة تصل إلى ميناء سعودي.

ولعل من المناسب الإشارة إلى أن موانئ السعودية تحظى بأكبر حصة من البضائع في موانئ دول مجلس التعاون، وقد بلغت هذه الحصة في عام 1999، حوالي %61، أما الحصة الباقية فهي موزعة بين بقية دول المجلس.

إن أهمية الموانئ في العالم تزداد يوما بعد يوم في ظل الزيادة المتنامية للتجارة المنقولة بحراً، التي يبلغ معدلها حوالي %4 سنويا، يعززها الانخفاض المستمر في أجور الشحن عن طريق البحر الذي أصبح وسيلة النقل الأقل تكلفة في العالم، بالاضافة إلى سرعة هذه الخدمة وانتظامها.

ومن ثم فليس من سبيل الصدفة أن تبادر حوالي خمسين دولة في العالم، بما فيها السعودية إلى تخصيص خدمات موانئها.

فالموانئ بوابات التجارة والتنمية، وبهذا فهي من أولى المواقع التي تتفاعل على ساحتها أدوات المنافسة الاقتصادية لأي دولة مع العالم الخارجي، ونجاح الموانئ لا يعتمد فقط على طاقتها أو تكلفة خدماتها، لكن على مرونتها في التعامل وسرعة استجابتها للمتغيرات الاقتصادية.

لقد باتت الحواجز التجارية تتهاوى الواحد تلو الآخر، وأضحى باب المنافسة مفتوحا على مصراعيه، ولم تعد المنافسة محصورة بين طرف وآخر فقط، بل انها متعددة الأطراف والاتجاهات.

ليس هذا فحسب، فقد تضافرت عوامل أخرى كثيرة تحتم البحث عن مفهوم جديد لتشغيل وإدارة الموانئ بما يحقق لها القيام بالدور المطلوب منها بكفاية واقتدار.

ففي السنوات الثلاث الماضية، أصبح من المعتاد أن نقرأ أو نسمع في وسائل الإعلام عن خطط لإنشاء موانئ جديدة في مواقع متعددة من العالم أو توسعة لبعض الموانئ القائمة، ففي منطقة الشرق الأوسط لوحدها، بلغت الاستثمارات المعلن عنها حتى الآن لمثل هذه المشاريع حوالي 4500 مليون دولار.

ثم هناك عامل آخر، ألا وهو التطورات السريعة في حقل التجارة البحرية، التي يمكن تلخيصها في ارتفاع معدل الزيادة السنوية للنقل بالحاويات (الكونتينرات) مقارنة بمعدل الزيادة العامة للتجارة البحرية، والتوسع في حجم سفن الحاويات التي تضاعفت في الآونة الأخيرة إلى 8 آلاف حاوية للسفينة، مما جعل تكلفة بناء وتشغيل سفن الحاويات الجديدة عالية (حوالي مائة مليون دولار لبناء السفينة الواحدة)، وتتطلب كفاية واستثمارات كبيرة في خدمات الموانئ، كما أن التكلفة العالية لتشغيل سفن الحاويات ستجعلها تقصر زيارتها على ميناء واحد أو ميناءين على الأكثر في المنطقة، وبالتالي ستشهد الموانئ زيادة كبيرة في عملية المسافنة Transshipment، وهي انتقال البضائع عبر موانئ وسيطة قبل أن تصل إلى وجهتها الأخيرة.

وبالنسبة للموانئ السعودية بالذات، علاوة على العوامل المشار إليها أعلاه، فقد حدث تحول كبير في الاقتصاد الوطني نحو التصدير، فإلى عهد قريب، في عام 1983 مثلا، كانت الصادرات تمثل أقل من %7 من مجموع حركة البضائع في الموانئ بينما في عام 2000 وصلت هذه النسبة إلى %70.

لقد تم طرح خمس وعشرين فرصة، عن طريق المنافسة العامة، أمام القطاع الخاص للاستثمار في مجالات متعددة مثل محطات الحاويات ومحطات البضائع ومحطات الحبوب السائبة ومحطات البضائع المبردة والموانئ الصناعية ومناطق إعادة التصدير والخدمات البحرية.

ومورست شفافية عالية، فالشروط موحدة وواضحة، والوثائق مدعمة بقدر كبير من البيانات، ومظاريف العطاءات المقدمة من المستثمرين تفتح في يوم تقديمها نفسه في جلسة علنية يتم فيها الإعلان عن الفائز حال الانتهاء من فتح جميع المظاريف، وفي كل الحالات، من دون استثناء، كانت الترسية على من يقدم أعلى نسبة من دخل العقد للدولة.

ومن أهم الشروط التي اشتمل عليها البرنامج لتنظيم العلاقة مع المستثمرين وتحديد التزاماتهم في الإدارة والتشغيل ما يلي:

* المنافسة بين المستثمرين على شكل مزايدة عامة لمن يقدم أعلى نسبة للميناء من الأجور التي يحصلها المستثمر من الوكيل أو مالك السفينة حسب لائحة أجور خدمات الموانئ السعودية.

* فرصة المشاركة في المزايدة متاحة أمام جميع الشركات والمؤسسات السعودية.

* لتوسيع دائرة مشاركة القطاع الخاص، لا يسمح لمستثمر واحد بأكثر من عقد واحد لمناولة البضائع في الميناء نفسه.

* التعاقد بأسلوب التأجير على أساس مشاركة الدولة في دخل المستثمر من الخدمات التي يقدمها بتشغيل معدات مناولة البضائع والأرصفة والساحات والمستودعات التابعة لها في المحطة، وتتراوح مدة العقود بين عشر سنوات وعشرين سنة هجرية حسب حجم الاستثمار المطلوب.

* يلتزم المستثمر بتوظيف العمالة السعودية العاملة حاليا في المحطة وبالرواتب والبدلات الحالية نفسها.

* المستثمر يملك المرونة في منح عملائه حسومات في إطار حصته من الأجور.

وبالرغم من أن عقود تخصيص خدمات الموانئ السعودية لا يزال معظمها في بدايته، غير أن النتائج الأولية للعقود التي بدأت فعلا، إيجابية بكل المعايير. ويمكن تلخيص هذه النتائج في التالي:

* زيادة معدلات الإنتاجية في مناولة البضائع وقد بلغت نسبة الزيادة في بعض المحطات أكثر من %30.

* زيادة مضطردة في إيرادات الموانئ.

* توفير برامج لتدريب وتوظيف اليد العاملة السعودية.

* استقطاب استثمارات جديدة من القطاع الخاص لتوفير تجهيزات ومعدات جديدة للموانئ، وتتراوح قيمة هذه الاستثمارات بين 50 مليون ريال في بعض المحطات إلى 500 مليون ريال في محطات أخرى وفقا لحجم العمل.

* ارتفاع معدلات الإنتاجية في عمليات التشغيل أدى إلى انخفاض أجور شحن البضائع من وإلى موانئ السعودية مما انعكس بشكل إيجابي على أسعار السلع في السوق المحلية، كما أنها وفرت ميزة تنافسية للصادرات السعودية للوصول إلى الأسواق العالمية.

إن برنامج السعودية لتخصيص خدمات الموانئ ينطوي على كثير من الإيجابيات، ليس فقط من منظور النتائج التي تحققت في رفع كفاءة الأداء، بل أيضا في الشكل التنظيمي للبرنامج الذي راعى الجوانب الإنسانية والاجتماعية للتخصيص، ووفر آليات كافية للرقابة والمحافظة على المال العام عبر عدة قنوات أهمها الشفافية والمنافسة واستمرار الدولة في دورها الرقابي من دون الإخلال بحق المستثمر في إدارة وتشغيل المرفق بأسلوب تجاري.

* عضو مجلس الشورى السعودي