العلمنة العربية: فصل الاقتصاد عن السياسة

حسين شبكشي

TT

تسعى الدول المتقدمة في مواجهتها لمفاعيل العولمة وتحرير اقتصاداتها، الى ترسيخ اسس الحفاظ على استثماراتها. وهي الى جانب وضعها الاطر التقنية والفنية وتسهيل خدمات البنية التحتية تتقارب في اطار المناخ الاقليمي والدولي، في تشريع القوانين محفزة للاستثمار ولجلب رؤوس الاموال، وخصوصا ان العولمة فتحت اقنية الاستثمار عبر حدود كل من تلك الدول المتقدمة، فباتت تيارات رؤوس الاموال تضع ما يقارب الالف مليار دولار سنويا في اتجاهات الدول الحاضنة للاستثمار والراعية له، وتحتضن الدول الاستثمارات الوافدة اليها وتجعلها الهدف الاساسي في التنمية العامة، وهي بذلك تقدم لها الضمانات، سواء لناحية تصريف منتجاتها وخدماتها او لناحية الاستثمار عن طريق التشريع السليم واستمرارية السقف القانوني لهذه الحماية.

وترى تلك الدول ان خلق بيئة مناسبة لتوسيع قاعدة التبادل عبر الحدود وحضانة الاستثمارات، يسمح بتقوية المنافسة ويرفع الانتاجية والنمو. ففي الربع الاخير من القرن الفائت حققت الدول الصناعية المتقدمة تطورا كبيرا على نهج اصلاح الخلل وتحسين تنافسية الاسواق في بعض القطاعات الهامة للخدمات مثل الاتصالات والنقل والخدمات المالية والتوزيع التي ساعدت على تخفيض تكلفة المنشآت.

غير ان عددا كبيرا منها إما انه تبنى قوانين المنافسة وإما عزز القوانين المرعية لديه، لانه ادرك ان مثل هذه التشريعات يمكنها ان تحرك المنافسة بطريقة تعزيز الفعالية وتحقيق اهداف اخرى مهمة مثل التكامل الاكثر تقدما للاسواق العالمية. فالتشريع للتنافسية، في معظم البلدان، حيث تطبق الشروط ذاتها على المنشآت العامة والمنشآت الخاصة، مرتبط بمتابعة اهداف تطور الفعالية وتكامل الاسواق. كما ان اصلاح القوانين والانظمة واستمرارية مفعولها، شكلا عنصرا آخر اساسيا لايجاد بيئة اكثر ملاءمة للتنافسية الصناعية، ولتسهيل بلوغ قادمين جدد الى الاسواق ومساعدة المنشآت على ان تستغل امكانات التوسع المقدمة لها.

لقد خطت العولمة منذ الربع الاول لعام 1999 خطوة مميزة في مجال تحريك الاموال، اذ اتم الشركاء في منظمة التجارة العالمية «اتفاقية تحرير تحرك الخدمات المالية» حيث عرفت الحدود منفذا حرا جديدا في نطاق التمركز حول المفهوم العالمي.

وجاء هذا التحرير الحديث للخدمات المالية بين دول العالم اثر سلسلة من الازمات المالية بين اواخر الثمانينات واواخر التسعينات، مما استوجب تعديلا في الدول النامية يضع حدا للفوضى التي حصلت، الى جانب الخلل الهيكلي في العلاقات الدولية. وقد نجحت تلك الدول في تعزيز الاقتصاد المالي لمصلحة الاقتصاد الواقعي، اي الانتاج في الصناعة والزراعة والمناجم وغيرها. وليس افضل للاستثمار من ان يحقق العائدات التي توقعها في تخطيط الجدوى له، وان يتربص بالفرص المناسبة للتوسع بحيث يصير الاستثمار القائم اغراء للاستثمار المرتقب فيحقق الاستقرار المالي لديه. وبمراجعة سريعة نجد ان اغلب ما استحدث من اصلاحات وتشريعات في دول العالم الصناعي نابع من اعطاء الاقتصاد «مساحته» وحجمه وصلاحياته لاحداث النقلات النوعية المطلوبة وفصله واستقلاليته عن الحكومة وسياستها. وقد احدث ذلك تطورا هائلا في الفكر الاداري تبعته انجازات لافتة على المستوى الاقتصادي.

وبمتابعة دقيقة للواقع الاقتصادي العربي اليوم نجد ان الحكومات العربية لا تزال بعيدة كل البعد عن الممارسة العملية الفعالة لكل ما تطرحه من توجهات نحو اقتصادات السوق ومواكبة تيار العولمة. فسياسات الخصخصة التي تعلن والتشريعات التي تستحدث والقرارات التي تصدر لا تلبث ان تتحول الى ترف اعلامي فكري «يتناسب» مع متطلبات آنية ولكن تبقى عجلة الاصلاح الحقيقي والتطوير الواقعي بعيدة تماما عن ساحة الاحداث.

وهذا ما جعل الاقتصاد العربي يسعى حثيثا للخروج من سيطرة السياسة عليه وهو الذي جعل قطاع الاعمال والمفكرين فيه يناشدون الحكومات برفع ايديها عن الاقتصاد والتخفيف من الهيمنة والسلطة المطلقة عليه. فلقد اثبتت نتائج عقود متراكمة ان تحرير الاقتصاد من ايدي الدولة فيه العديد من الانجازات الملموسة والنتائج الحميدة والممكن قياسها رقميا.

ان تبني الحكومات العربية سياسات اصلاحية اقتصادية جادة فيها امكانيات تنفيذية واضحة لهو كفيل ببث ثقة نحن في امس الحاجة اليها وبغير ذلك سيستمر الطرح الاقتصادي الرسمي ظاهرة صوتية من دون نتائج ملموسة على ارض الواقع. ولعله آن الآوان لعلمنة اقتصادية مجسدة في فصل السياسة عن الاقتصاد، وان النتائج الاقتصادية التنموية في بعض دول العالم الثالث جديرة بالمتابعة والدراسة، ولعله من المفيد متابعة ما تم انجازه في تلك الدول بدلا من المفاخرة بانجازات بعيدة عن المثالية والكمال.