مسؤولية مدققي الحسابات في فضيحة «إنرون»

TT

جاء انهيار شركة «انرون» عملاق الطاقة الاميركي صدمة مفاجئة لأسواق المال والأعمال في اميركا والعالم. وخاض المحللون ووسائل الإعلام كثيرا في محاولات لاستجلاء الحقائق التي تكشف عنها النزر اليسير حتى الآن وما زال الخافي أعظم.

وسارع المساهمون الى القاء اللوم تارة على الشركة نفسها وتارة على البنوك ودوائر المحاماة التي تعاملت معها وأخرى على مدققي الحسابات.

وتركز اتهام مدققي الحسابات على كونهم قاموا باتلاف اوراق تدقيق قبل بدء التحقيق، وهو ما يقود الى استنتاج انها طمس متعمد لحقائق معينة يجدر ان لا تظهر للعيان.

وهنا لا بد للمهنيين ان يوضحوا وقائع معينة تتعلق بنطاق عملهم عموما وبالسوق والظرف الذي برزت منه المشكلة حتى لا يساء الى مهنة ـ تمثل معيارا للثقة والالتزام ـ بسبب عدم تكامل المعلومة لدى متلقيها او حتى لسوء تقدير افراد قلائل فتنسحب اخطاؤهم على مئات الألوف من العاملين في حقل التدقيق.

ولو تم ذلك للأسف فإننا نكون في ظرف مشابه لأحداث 11 سبتمبر عندما قامت حفنة منحرفة بجريمة نكراء ثم الصقت التهمة بالعرب والمسلمين وهم براء منها.

لابد إذاً من أن نتعرف أكثر على جوانب مهنية وظرفية لهذه القضية الشائكة:

1 ـ تجمع كبريات شركات التدقيق العالمية على تبني سياسة الاحتفاظ بالاوراق المهمة ويطلق عليها Retention Policy، وهي تعني احتفاظها فقط بما تراه اوراقا جوهرية من ناتج اعمال تدقيقها وبالتالي اتلاف باقي الاوراق. وهو اجراء روتيني يهدف الى تقليص حجم الاوراق المحفوظة لدى مدقق الحسابات الذي لو احتفظ بكل شيء لاحتاج الى مستودعات هائلة من الاوراق التي لا تنتهي. في اطار هذه السياسة قام ديفيد دنكان الشريك المسؤول من مدققي حسابات «انرون» باتلاف اوراق تتعلق بتدقيقها وهنا نستطيع ان نفهم نقل وسائل الاعلام تعميمه المكتوب الى فريق عمله باتلاف الاوراق. ولو كان الهدف طمس حقائق معينة فإنه لن يكون من السذاجة بتوثيق ذلك بتوقيعه وربما لجأ الى طرق اخرى لا تثبت واقعة الاتلاف عليه.

ومع ان اتلاف الاوراق مقبول في اطار الـ Retention Policy الا ان خطأ دنكان انه لم يوقف الاتلاف الا بعد مضي 24 ساعة على اصدار هيئة الرقابة على سوق المال الاميركي طلب معلومات من «انرون» التي وعدت بالتحقيق، وكان حريا به ان يوقف الاتلاف لحظة صدور القرار.

2 ـ ومما يؤخذ ايجابيا لصالح مدققي الحسابات وهم «اندرسن العالمية» التي تعتبر من اكبر شركات التدقيق في العالم واكبرها في الشرق الاوسط حيث تتجاوز ايراداتها عشرة مليارات دولار سنويا انها هي التي بادرت ـ قبل ان يطلب منها ـ الى تقديم شهادة طوعية امام الكونغرس مع استعداد فوري لتوفير كل المعلومات التي طلبتها هيئة الرقابة على سوق المال. وكان طبيعيا ان تطرد «دنكان» وثلاثة من فريق عمله ليس اثباتا لتهمة معينة عليهم وانما حرصا على عدم التشويش على اداء خمسة وثمانين ألف مهني من منسوبيها في العالم يخدمون 100.000 منشأة.

وهي كلها اجراءات تعزز مصداقية ممتهني التدقيق على اختلاف شركاتهم واسواقهم. فالدفاع هنا عن المهنة وامانتها هو الاساس لأي طرح او اجراء.

3 ـ هناك اجراء متعارف عليه في اسواق المال الاميركية عندما تتعرض اي شركة للافلاس ان يقوم مساهموها برفع دعاوى قضائية على مدققي الحسابات. والسبب في ذلك ليس تشكيكا في مصداقياتهم وانما لكونهم الوحيدين الباقين من ذوي الملاءة المالية الذين يمكن ان يقدموا تعويضا للمساهمين، ولم يبق الا مدقق الحسابات الذي ان اثبت تقصيره فستدفع التعويض شركة تأمينية. وهي نظرية Deep Pockets.

ومن هنا كان طبيعيا ان يبادر المساهمون الى تفعيل اتهام مدققي حسابات «انرون» فهو الاجراء الطبيعي هناك.

4 ـ لا شك ان بعض المعايير المحاسبية وطرق تطبيق بعضها من قبل معظم الشركات الاميركية ساهمت بشكل كبير في ما حدث لـ«انرون». لذا تتجدد بين آونة واخرى اصوات تنادي باصلاحات في نموذج التقارير المالية بالولايات المتحدة وطرق اعداد المعايير المحاسبية والوسائل الجزائية المهنية. والغريب انه حتى في اميركا يحاول البعض الخلط بين واجبات التدقيق ومسؤوليات الادارة. فمدقق الحسابات ليس له اي دور لا في رسم سياسات الشركة ولا ادائها ولا توجيهها. وتنحصر واجباته في تقديم صورة امينة دقيقة للاجراءات والمعاملات المالية التي تمكن الشركة من الاطلاع عليها وفحصها.

وفي واقعة «انرون» توضح المؤشرات ان مما قضى عليها اخطاء ادارية واستثمارية مثل توسعها السريع في مشاريع جديدة غير اختصاصها مثل «الاتصالات» واسواق بعيدة مثل الهند والشرق الأوسط وآسيا الوسطى وغيرها جريا وراء رفع اسهمها في «وول ستريت» بشكل غير واقعي وما لبث ان انهار ذلك مع انهيار الاسواق المالية وأسعار البترول في عام 2001 مما أجبر الشركة للاعلان عن خسائرها والتزاماتها الحقيقية في الربع الأخير من السنة.

ولا شك ان هناك خفايا لم تظهر بعد ربما تشير الى مسؤوليات ادارتها وقيادييها والبنوك التي اقرضتها والمشرعين الذين قننوا لصالحها بعض التشريعات والبنوك الاستثمارية التي نصحت عملاءها بالمساهمة في مشاريعها وشركات التصنيف الائتماني التي قومت اداءها المالي بل ربما حتى السياسيين الذين تلقوا تبرعاتها لحملاتهم الانتخابية.

* رئيس تحرير «عرب نيوز»