دروس مالية عربية من انهيار شركة «إنرون» الأميركية

د. إبراهيم سيف *

TT

سقطت شركة انرون الاميركية للطاقة في ما وصف على نحو صحيح بأنه اكبر انهيار مالي في التاريخ الحديث. وللصحافيين العاملين في الميدان الاقتصادي، فان ذلك الانهيار وفر مادة غنية للتحليل ووضع العناوين الجذابة. ولكن هل من دروس على الصعيد العربي يمكن رسمها من خلال الانهيار الكبير الذي وصفه باول كروجمان احد اساتذة هارفارد في الاقتصاد بانه يوازي وربما يتفوق على ما جرى في اميركا في الحاري عشر من سبتمبر (ايول) الماضي؟

نبدأ بالتساؤل حول كيف تتم قراءة البيانات المالية لاي شركة في العالم؟ وكيف تستجيب الاسواق لتلك البيانات التي تحدد عادة ديناميكية تحديد الاسعار في نهاية كل يوم من التداولات بناء على اصغر الاخبار التي يتم احيانا تسريبها الى الاسواق؟ لا شك ان الاعتماد على شفافية المعلومات وتوفرها وترك الاسعار تتحكم في توزيع المحافظ الاستثمارية داخل الاسواق المالية والتوسع في ذلك المبدأ الليبرالي لتوزيع الموارد على مستوى الاقتصاد الكلي، يعتبر احدى ركائز الاقتصاد الكلاسيكي الحديث. ورغم ان انهيار انرون يمكن النظر اليه من هذه الزاوية، حيث لم تستطع الشركة العملاقة التستر على حساباتها فان آلية الاسواق وديناميتها كشفتها، ذات الآلية التي نتحدث عنها منحت الشركة الوقت الكافي لكي تصل الى اكبر عملية افلاس تشهدها الاسواق. وحتى لا نبتعد عن البعد العربي في انهيار انرون، فان الحديث لن ينطبق فقط على الخسارة المباشرة التي ترتبت على بعض الشركات العربية التي كانت ولا تزال ربما تمتلك حصصا في شركة عملاقة مثل انرون، اذ يعتبر هذا الوضع طبيعيا الا ان التساؤل الذي نطرحه هو كيف ان بعض المؤسسات المالية، الدولية وبعض الشركات التي اسست لنفسها اسما بات مرجعية في المصداقية المالية باتت موضع تساؤل. وهذه الشركات هي نفسها التي تقدم النصائح وتحدد احيانا الى اين تتدفق تمويلات الاسواق المالية العالمية. معلوم في الاسوق المالية الدولية ان هناك مؤسسات لتقدير الائتمان المصرفي والملاءة المالية. وهذه الشركات وبناء على ما يقدم اليها من معلومات وبيانات اخرى يتم تحصيلها تقوم بتصنيف بعض الشركات الزبونة او حتى بعض الدول لاصدار ما يعرف بـCredit Rating . هذا التصنيف يصبح مرجعية تستخدمها البنوك ومؤسسات الاقراض الدولي كنقاط انطلاق لتحديد الاهلية الائتمانية وما يترتب عليها. عربيا فانه لا يوجد سوى بعض المحاولات لاطلاق شركة استشارات تتمتع بمصداقية معقولة لاصدار تقييمات ائتمانية يمكن ان تساعد في تقليل الاعتماد على المؤسسات العالمية التي وضح من خلال ازمة انرون ان «السلطة المعنوية» التي كونتها على مدار سنين ايضا تعرضت لهزة. ففي الوقت الذي كانت فيه شركة انرون تدرس كنموذج ناجح للاعمال في الجامعات الغربية وكان تحولها من شركة تقليدية للنفط والطاقة الى شركة تطبق تقنيات الاقتصاد الجديد مع ما يرافق ذلك من تكنولوجيا، فان الانهيار الذي حصل وفقدان الثقة في الشركة يطرح علامة استفهام كبيرة على اعتماد اسعار الاسهم كآلية لتحديد قيمة الشركة، كذلك فان الاعتماد على الدور الذي يمكن ان تقدمه شركات التقييم الائتماني العالمية ودور الاستشارات في ضوء ما حدث مع انرون يطرح علامات استفهام حول غياب القدرة على التنبؤ بما حدث او اتخاذ اجراءات تحوط مالي. وفي دعوات الاسواق المالية في الدول المتقدمة الى الدول النامية والاسواق الناشئة ومنها العربية، فان المبدأ الاساسي الذي ينادى به يتمثل بتعميق الاسواق الماليةFinancial Deepdning ، اضافة الى ضرورة التقيد بمبدأ الافصاح الماليDisclosure ، الا ان ما حصل يكشف ان الدعولات الى التقيد بالاصول المحاسبية يجب ان يوجه الى الشركات التي، نظرا لتاريخها وعراقتها، تصبح تظن انها قادرة على تجاوز القوانين الاساسية والاعراف السائدة.

وهنا يجدر التذكير ان هناك مؤسسات مالية عربية وشركات انتاجية بلغت مراحل متقدمة وتشعر العديد من تلك المؤسسات العملاقة بان التشريعات القائمة في بلادها لم تعد تكفي. وان يكن هذا صحيحا، فان عدم الالتزام بالقواعد الاساسية يعتبر المعيار الاساسي الذي تسبب بانهيار عملاق مثل انرون كان يبلغ حجم اصوله 47 مليار دولار. ان استمرار التركيز والتخصص في الانتاج يعتبر ضروريا لاستمرار تطوير الميزة التنافسية والحدية للكثير من الشركات، كذلك فان هناك حاجة للتركيز اكثر على تطوير مؤسسات عربية مستقلة قادرة على التعامل مع تعقدات العمليات المصرفية الجديدة. وربما يكون الظرف مناسبا لاطلاف فكرة انشاء شركة عربية لتقييم الملاءة المصرفية ورفدها ببعض الكوادر المالية العربية المهاجرة في الخارج او تدعيمها بما هو متاح محليا. ولا شك ان هذه الشركة اذا اعتمدت الاصول المهنية المتعارف عليها عالميا ستجد طريق النجاح. يبقى القول ان المطلوب ليس تغييرا جذريا في اصول التعامل مع شركات تقييم الائتمان العالمية، بل يجب ان لا يؤخذ كلامها ورأيها في العديد من المواضيع على انه القول الفيصل، اذ ان هناك مؤسسات صغيرة موجودة في الاسواق العالمية وتقوم بعمل جيد لكنها لا تحظى بنفس السمعة، ولا بأس اذا امكن الدمج بين وجهات النظرة المختلفة لتجنب تكرار بعض السيناريوهات التي لا تحمد عقباها، فاذا كانت انرون نقطة في بحر الاقتصاد الاميركي، وإن كانت نقطة كبيرة وستشكل علامة فارقة في عمل مؤسسات الاستشارات العربية، الا ان انهيارا مماثلا ان وقع في مؤسسة مالية او انتناجية عربية ستكون له آثار مدمرة. ايضا يثبت مرة اخرى ان الديمقراطية الاميركية وطريقة تمويل الانتخابات واللغط الكبير الذي يدور حول علاقة الساسة الاميركيين بشركة انرون يشير الى ان المسائل لا تجري كما تدعي نظريات الاقتصاد الحديث. ورغم ان العام الحالي كان يتوقع ان يشهد بداية صحوة في الاقتصاد الاميركي الا ان انهيار انرون والذي تبعه كأزمة سلسلة متاجر كي. مارت لا يدعوان الى التفاؤل كثيرا. باحث بالوحدة الاقتصادية ـ مركز الدراسات الاستراتيجية ـ الجامعة الاردنية [email protected]