بناء شبكة سكة حديدية عربية حلم يعزز التجارة البينية والاستثمارات الأجنبية لو تحقق

المغرب يملك أفضل خدمات قطارات في العالم العربي وسورية تطمح لدور البوابة على أوروبا

TT

تطور الاهتمام العربي الرسمي بمشروع ربط الدول العربية بشبكة سكة حديدية في السنوات الاخيرة، خاصة مع تفعيل العمل لانشاء السوق العربية المشتركة، وتحرك وزراء النقل باتجاه الدفع نحو بناء شبكة تعود بفوائد اقتصادية واجتماعية عديدة على دول العالم العربي. ويأتي الالتفات العربي لاهمية دور السكة الحديدية في النمو الاقتصادي القطري والاقليمي متأخراً جداً، فالمنطقة العربية واحدة من مناطق قليلة جداً لا تملك ربطاً سككياً فعلياً بين دولها، او حتى على الاقل بين اثنتين من دولها. فالقطارات تعتبر من اهم سبل المواصلات بين الدول الاوروبية، ولم يقف البحر حاجزاً امام تطوير الربط السككي بين دولها، فالنفق الرابط بين بريطانيا وفرنسا تحت بحر المانش، يشكل شرياناً حيوياً لقطاع النقل بين الجزيرة البريطانية والقارة الاوروبية.

وتكمن اهمية الربط السككي بين الدول العربية في انها ستساعد حتماً في تفعيل التجارة البينية بين هذه الدول والتي لا تتجاوز قيمتها حاليا 8 في المائة من اجمالي التجارة العربية الخارجية. وبالرغم من ان مشاكل التجارة العربية البينية تحتاج الى نقاش منفصل خارج اطار هذا المقال، يمكننا الجزم بأن وجود خدمات سكة حديدية متطورة ستساهم في تسهيل انتقال البضائع بطريقة اسرع واقل كلفة. كما انها ستكون حيوية بالنسبة لتجارة الترانزيت التي تشكل مصدراً اساسياً للمداخيل في الدول التي تملك منافذ بحرية استراتيجية ومتواصلة مع مناطق الداخل كمرفأ بيروت في لبنان والعقبة في الاردن. وبالاضافة الى تفعيل الانسياب التجاري، ستساهم شبكة السكة الحديدية بتسهيل انتقال الخدمات والعمالة بين الاقطار العربية، وذلك سيفعل بالتأكيد قطاع الخدمات، كالخدمات البريدية على سبيل المثال، وسيخلق نوعاً من حرية الحركة للعمالة داخل الاقطار وفيما بينها. وهذه العوامل الثلاثة مجتمعة ستساعد على تحسين فرص دول المنطقة في جذب الاستثمارات الاجنبية المباشرة من الدول الصناعية لان سرعة وفعالية قطاع النقل امران حيويان بالنسبة للشركات المنتجة ذات الحجم الكبير والتي تجذبها سهولة الوصول الى اسواق كبيرة ومفتوحة من جهة، والى مصادر المواد الاولية من جهة اخرى.

ومن ناحية الاقتصاد البيئي، نجد ان الربط السككي سيساهم في تقليص التلوث في منطقة الشرق الاوسط عن طريق تراجع الاعتماد الكلي على الشاحنات في نقل البضائع، بالاضافة الى حل مشكلة ازدحام السير على الطرقات الدولية الناجمة عن انتقال البضائع والمسافرين براً عبرها. يبقى ان نذكر ان الربط السككي بين الدول العربية سيشجع على السياحة البينية لما للمواصلات المتطورة من دور في تسهيل الانتقال، وهذا بالتالي سيعزز فرص جذب السياح الاجانب المهتمين في التنقل بين معالم المنطقة السياحية في وقت محدود.

* وضع السكك الحديدية في العالم العربي

* شبكات السكك الحديدية في الدول العربية متفاوتة من ناحية الطول والنوعية والفعالية. فالشبكة السودانية تملك اطول خطوط سكة حديدية في العالم العربي حيث تبلغ 5311 كلم، وتستخدم بشكل رئيسي لخدمة تجارة القطن وربط العاصمة الخرطوم ببور سودان على البحر الاحمر. وتحل مصر صاحبة اقدم سكة حديدية في الشرق الاوسط ثانية بطول 4955 كلم، فالجزائر ثالثة بطول 4820 كلم، وسورية رابعة 2750 كلم، والعراق خامساً 2339 كلم. وتأتي تونس سادسة بطول 2168 كلم والمغرب سابعاً بطول 1907 كلم. اما بالنسبة للنوعية، فمعظم الشبكات لدى الدول العربية، باستثناء السودان وجزء كبير من الشبكة التونسية، مكونة من خطوط ستاندرد (قياس 1.45 متر) وهذا يسهل من ربط الشبكات ببعضها. وتعمل غالبية القطارات في هذه البلدان على الديزل باستثناء المغرب الذي نجح في كهربة اكثر من نصف شبكته. وتختلف فعالية ومدى استخدام خطوط السكة الحديدية من بلد الى اخر وان كان القاسم المشترك بين خدمات قطاع السكك الحديدية في كل من هذه الدول هو التخلف، بنسب متفاوتة، مقارنة بخدمات قطارات البضائع والركاب في دول اوروبا. لكن يظهر جلياً تقدم دول المغرب العربي في هذا المجال على دول المشرق التي تملك خدمات سكة الحديدية. فالقطارات المغربية اكثر الشبكات العربية تطوراً حيث ان اكثر من نصف خطوطها يعمل على الكهرباء وتخدم اكثر من 12 مليون مسافر في السنة، في حين ان كمية البضائع المنقولة عبر السكك الحديدية في المغرب بلغت اكثر من 19 مليون طن في عام .2000 اما احصائيات سكة الحديد التونسية فتشير الى نقل اكثر من 12 مليون طن في عام .2000 ويصعب حالياً تقييم واقع السكك الحديدية الجزائرية نتيجة الوضع الغير المستتب في الجزائر منذ بداية التسعينات، لكن الاحصائيات تشير الى نقل قطارات البضائع 17 في المائة من اجمالي البضائع المنقولة في عام .1996 وباستثناء ليبيا، يمكن لدول الاتحاد المغاربي تشغيل شبكة سكة حديد مشتركة، مع الاشارة الى ان ليبيا اعلنت في العام الماضي نيتها بناء شبكة خطوط حديدية ساحلية تربط الحدود مع كل من تونس ومصر.

اما بالنسبة لدول المشرق، فيمكننا الجزم بأن مصر هي الدولة الوحيدة التي يمكنها الادعاء بوجود شبكة سكك حديدية عاملة. فالقطارات تربط المدن الكبرى في الساحل الشمالي ومناطق الجنوب البعيدة بالعاصمة، وبعض قطارات الركاب سريعة بحيث تقطع المسافة بين القاهرة والاسكندرية في ساعتين. وتنقل قطارات البضائع المصرية حوالي 13 مليون طن سنويا في حين تقل قطارات الركاب اكثر من مليوني مسافر يومياً. لكن الحوادث المرعبة الناتجة عن قلة الاستثمار وسوء الادارة تجعل السكك الحديدية المصرية في وضع يحتاج الى اعادة تأهيل. وتعتبر سورية والعراق، بالاضافة الى الاردن، من الدول الجادة في تفعيل شبكاتهم، خصوصاً سورية، التي تطمح لان تلعب دور بوابة العالم العربي على اوروبا من خلال شبكة حديدية متطورة. لكن الشبكة السورية الداخلية لا تلعب دوراً يذكر في نقل الركاب حيث انها لم تنقل اكثر من 1.7 مليون راكب في عام 1996 نظراً للوقت الطويل الذي تستغرقه الرحلة مقارنة بالسيارات والباصات. ولا بد من الاعتراف بأن اعادة تشغيل خط الحجاز بين عمان ودمشق بادرة خير، لكن الخط لا يعدو كونه رابطاً رمزياً بين البلدين اذا لم تتم اعادة تأهيله بشكل يغري المسافر والتاجر باستخدامه بدل التاكسيات والباصات او الشاحنات. وكذلك الامر بالنسبة لخط البصرة ـ حلب الذي شغل مؤخراً والذي تستغرق رحلة القطار عليه حوالي 48 ساعة. وتتعاون سورية حاليا مع شركة استشارية فرنسية (سيسترا) لدراسة امكانية ربط مدينتي دمشق وحلب بخط يرفع سرعة القطارات العاملة عليه من 60 كلم/ساعة الى 180 كلم/ساعة، كما تدرس ربط مرفأ اللاذقية على الساحل المتوسطي بمدينة البصرة جنوب العراق. ومن بين دول مجلس التعاون الخليجي تنفرد السعودية بوجود شبكة سكة حديدية يبلغ طولها 1390 كلم وتتركز في المناطق الوسطى والشرقية، وان كان اول عهد شبه الجزيرة العربية بالقطارات يعود الى خط الحجاز في الغرب. الا ان خطوط السكة الحديد انشئت لنقل المعدات والمواد لحقول التنقيب عن النفط ومن ثم تطورت لتستخدم في خدمة الركاب. لكن يبقى استعمال القطارات محدوداً حيث لم يتجاوز عدد المسافرين 650 الف مسافر في عام 1998، كما لم يتجاوز حجم البضائع المشحونة مليوني طن.

وهكذا يتضح ان بناء شبكة سكك حديدية مترابطة بين الدول العربية يحتاج الى جهود واستثمارات هائلة، واذا ما كانت النية معقودة لدى الكثير من هذه الدول للمضي في هذا المشروع فان مشاكل ملحوظة ما زالت تعرقل تقدمه.

* العقبات امام بناء الشبكة الموحدة

* اولى العقبات هي مشكلة التمويل، فبناء سكك حديدية متطورة يحتاج الى بنى تحتية باهظة الكلفة. وهنا لا بد من طرق باب الاتحاد الاوروبي لحثه على تمويل بناء الشبكة لان فيها مصلحة لانتقال صادراته الى اسواق المنطقة بشكل اسرع واقل كلفة. كذلك، فان بناء السكك الحديدية وتشغيل خدمات قطارات عبر الشرق الاوسط وشمال افريقيا يندرج ضمن التنمية الاقتصادية التي يفاخر الاتحاد بدعمها من خلال البرامج الملحقة باتفاقيات الشراكة المتوسطية، وهذه التنمية ستخلق بالتالي فرص عمل جديدة تندرج في سياق تقليص الهجرة الاقتصادية الى دول الاتحاد. لكن لا بد من التأكيد على ان الاتحاد الاوروبي وغيره من الدول والمنظمات المانحة لن يتكفلوا بتغطية كلفة المشروع، كما ان الاستثمارات الاجنبية قد تبدي اهتماماً بتشغيل خدمات السكة الحديدية وليس بناءها لان التشغيل يتضمن مخاطرة اقل. لذلك سيبقى منوطاً بالدول العربية نفسها توفير التمويل اللازم لبناء المشروع الذي سيكون شرياناً حيوياً لهذه الاقطار. ومن العقبات الاخرى امام الشبكة الموحدة وجود حدود كثيرة تزيد من العراقيل امام انتقال الركاب والبضائع بسبب قيود الهجرة والجمارك. لكن يمكن تجاوز هذه العقبات من خلال التعامل مع حركة النقل بالقطارات كما يتم في الدول الاوروبية. اي بدل ان يتوقف القطار للتدقيق في اوراق ركابه او حمولته على الحدود الطبيعية لكل دولة، تصبح محطة القطار «الدولية» المدخل الى القطر المعني، مثل المطارات. هذه هي الطريقة المتبعة للانتقال بالقطار بين بريطانيا وفرنسا على سبيل المثال، فالمسافر يبرز جوازه في محطة «وترلوو» في وسط لندن ومرة اخرى في محطة «غار دي نور» في وسط باريس، ومن لا تسمح له قوانين الهجرة بالسفر لا يستطيع ركوب القطار.

تبقى العقبة الكبرى امام شبكة سكة حديدية تربط المشرق العربي بشمال افريقيا وجود اسرائيل على مفترق الطريق. فلا بد من المرور في اسرائيل لربط لبنان وسورية والاردن بمصر ومن ثم دول المغرب. الحل البديل الوحيد من الناحية الجغرافية هو ربط الاردن ومصر بنفق تحت خليج العقبة. لكن هكذا مشروع قد يكون مستحيلا ايضاً من الناحية الجغرافية، وان لم يكن كذلك فانه سيكون مكلفاً ربما اكثر مما تسمح الجدوى الاقتصادية للمشروع. كما انه يستصعب ان يجذب تمويلاً، خصوصاً من الدول المانحة التي تصب مصالحها السياسية في دعم نهاية سلمية للصراع العربي ـ الاسرائيلي وبناء علاقات بين اسرائيل ودول المنطقة.

وجدير بالذكر ان اسرائيل تملك شبكة سكك حديدية متطورة في قطاعي نقل الركاب والبضائع، وتنقل اكثر من 1.5 مليون مسافر شهرياً في حين تشحن اكثر من 10 ملايين طن من البضائع سنوياً. لا بد اذن من انتظار ايجاد حل للصراع العربي ـ الاسرائيلي لربط اطراف العالم العربي بشبكة سكك حديدية (وهذا ينطبق على شبكات الطرق ايضاً)، لكن هذا لا يمنع من العمل لانجاز الشبكة في اماكن اخرى. فجدوى المشروع لا تتوقف على المنفعة الاقتصادية المترتبة على ربط لبنان بتونس او العراق بالمغرب فقط، على سبيل المثال، بل على ربط الدول القريبة لبعضها في شبكات مناطقية تجتمع معاً في شبكة مترابطة في المستقبل. لذلك، فان التفكير بربط ميناء بيروت في لبنان او طرطوس في سورية باسواق الكويت والسعودية مثلا يعكس المنافع الاقتصادية والبيئية التي ستترتب على انتقال تجارة الترانزيت من الطرقات الدولية الى خطوط السكة الحديدية. وكذلك الامر بالنسبة لتوفير قطارات ركاب سريعة تنقل السياح العرب (وسياراتهم اذا ارادوا) من دول الخليج الى سورية وتركيا وحتى اوروبا في حين تقل مئات الاف الحجاج في موسم الحج الى السعودية موفرة عناء السفر بالباصات. اما في مصر ودول شمال افريقيا فان وجود شبكة متطورة تربط القاهرة في مصر بمدينة الرباط في اقاصي المغرب العربي ستخدم حركة انتقال البضائع والمسافرين وبالتالي تشجع الاستثمارات الاجنبية التي تحتاج الى وسائل نقل متطورة على التمركز فيها.

قد يكون سبب تخلف معظم دول العالم العربي في مجال السكك الحديدية ناتجاً عن انتفاء الرابط التاريخي والثقافي بهذه الظاهرة. فالسكك الحديدية نشأت وتطورت في اوروبا واتت السيارة وبعدها الطائرة لتقلصا سيطرة القطارات على قطاع النقل، لكنهما لم يستبدلا القطارات في كل المجالات لان الاستثمار في السكك الحديدية طورها بشكل واكب التطور التكنولوجي فزاد من سرعتها وفعاليتها ورفاهيتها. اما في العالم العربي المتلقي دوما للناتج الصناعي فمعظم بلدانه لديها تجربة محدودة مع القطار، وقد تلقفت بعده السيارة والطائرة كبديل عصري للقطار «المنقرض». لكن القطار لم ينقرض في اوروبا، بل ان دولا كفرنسا تتباهى بخدمات القطارات فيها حيث تملك خطوطاً تقارب 20 الف كلم طولا وتنقل اكثر من 140 مليون طن من البضائع سنويا (2001). هذا فضلاً عن ان قطارات الركاب السريعة «تيه.جيه.فيه» تسافر بسرعة 300 كلم/ساعة رابطة عاصمتها باريس بشواطئ المتوسط بثلاث ساعات فقط.