الاقتصاد الأردني بين جهود الإصلاح وجبهتي العراق وفلسطين

د. ابراهيم سيف*

TT

«الاردن بين نارين» كان عنوان حلقة نقاشية عرضها التلفزيون الاسرائيلي قبل فترة وتظهر المجال الضيق الذي يمكن ان يتحرك فيه الاردن ويستجيب للضغوطات الاقتصادية الناجمة عن الاوضاع المتفجرة في فلسطين وكذلك احتمالات تنفيذ هجوم اميركي على العراق الذي يعتبر الشريك التجاري الاول للاردن في مجال المبادلات التجارية. وواقع الحال لا يختلف كثيرا حيث تعتبر شراكة الاردن مع العراق استراتيجية على الاقل من الناحية التجارية رغم التأكيدات الاميركية انها لن تترك الاردن وحيدا حال حدوث تطورات غير محمودة او غير متوقعة. ويقول الدكتور محمد الحلايقة، وزير الاقتصاد الوطني، ان الاردن يمكن ان يغير الكثير، فيما يتعلق بادارة اقتصاده وعلاقاته الخارجية، لكنه محكوم بموقع جغرافي لا يمكن التأثير فيه، ولذا فان عليه التعامل مع الوضع القائم. ولا يخفى على احد ان الاردن متخوف كثيرا من الاثار الاقتصادية لاي هجوم محتمل على العراق، هذا اضافة الى المخاوف السياسية. وفي الوقت الذي نجح الاردن فيه بتحييد الاثار السلبية للانتفاضة الفلسطينية على اداء الاقتصاد والثقة فيه، الا انه لا يمكن تجاهل تلك الروابط مع العراق. وحتى نهاية النصف الاول من العام فان اداء الاقتصاد الاردني يعتبر ايجابيا، حيث تشير التقديرات الاولية الى تحقيق معدل نمو اقتصادي بالاسعار الحقيقية تجاوز 4 في المائة وكذلك فان الصادرات الاردنية حققت معدلات غير مسبوقة وتجاوزت نسبة النمو فيها الـ 25 في المائة مقارنة بذات الفترة من العام الماضي. الا ان جهود الاردن الاقتصادية والاصلاحية لا يمكن ان تتم بمعزل عن التطورات الاقليمية وبخاصة ما يجري على الجبهة الشرقية، حيث ان الكثير من الصناعات الاردنية تعتمد الى حد كبير على التصدير الى السوق العراقي بموجب الاتفاق التجاري السنوي الذي يستورد الاردن بموجبه كافة احتياطياته النفطية من العراق بأسعار تفضيلية، وبالمقابل فان الصناعيين والتجار في الاردن يقومون بتصدير سلع الى العراق بما يشبه «تجارة المقايضة» اكثر منها تجارة قائمة على المنافسة، والامر الخطير بالنسبة للاردن في هذا المجال هو ان حدوث انقطاع في الصادرات الى العراق لا يعني امكانية اعادة توجيه تلك الصادرات الى سوق بديل لا سيما ان تلك السلع لا تصدر اعتمادا على ميزة نسبية بل تعتمد اكثر على ترتيبات ثنائية بين بغداد وعمان. هذه الترتيبات التي تمتد لعقدين متتاليين بين الاردن والعراق خلقت ايضا مجموعات ضغط في الاردن لصالح العراق، مجموعات الضغط هذه، ودفاعا عن مصالحها التجارية بالدرجة الاولى، لا ترى فائدة من تغيير الوضع القائم، بل ان استمرار هذا الوضع يعتبر مريحا جدا. وتساهم مجموعات الضغط هذه، التي لا يمكن الاستهانة بحجمها، في وضع كوابح على الموقف السياسي الرسمي المتعلق بتوجيه ضربة ضد العراق وكذلك استمرار الحصار.

وتدرك الدول الغربية وفي مقدمتها الولايات المتحدة الاهمية الاستراتيجية التجارية للعراق بالنسبة للاردن، وبناء عليه فان الادارة الاميركية سعت الى اعادة رسم العلاقات التجارية بين الاردن والولايات المتحدة خلال السنوات الماضية من خلال مشروعين بارزين، الاول يتعلق بما يعرف بالمناطق الصناعية المؤهلة التي تعتمد على انتاج مشترك بين اسرائيل والاردن والمناطق الفلسطينية، ووفقا لمعادلة خاصة يمكن لتلك السلع الدخول الى الاسواق الاميركية دون اخضاعها لقيود جمركية او كمية. الاتفاقية او المشروع الثاني والتي يعتبر اكثر اهمية يتعلق باتفاقية التجارة الحرة بين الاردن واميركا، والذي يعتبر الاردن بموجبها رابع دولة في العالم تحصل على تلك المعاملة. هذا الاتجاه وان لم يتبلور بعد الا ان نتائجه بدأت بالظهور حيث تقدمت الولايات المتحدة على قائمة الدول الاكثر استيرادا من الاردن خلال النصف الاول من العام الجاري، حيث بلغت الصادرات الاردنية، وبخاصة من المناطق الصناعية المؤهلة، حوالي 203 ملايين دولار مع نهاية شهر يوليو (تموز) وهي بذلك احتلت المرتبة الثانية بعد العراق الذي يعتبر الدولة الاولى في استيعاب الصادرات الاردنية حيث بلغت نحو 237 مليون دولار بنهاية يوليو المنصرم. هذا الوضع الجديد يشير الى ان الاهمية التجارية لاميركا كشريك استراتيجي للاردن تتزايد، واذا ما اضيفت الاهمية السياسية فان العلاقات الاردنية الاقتصادية مع اميركا تصبح الاهم بالنسبة الى الاردن لا سيما ان حجم المعونات السنوية المقدمة من اميركا الى الاردن اقتربت من مبلغ 400 مليون دولار وهي تعادل 4.5% من الناتج المحلي الاجمالي.

اما فيما يتعلق بالعلاقة مع فلسطين واسرائيل على الصعيد الاقتصادي، فان الفرص الضائعة من استمرار الوضع اكبر من الفرص المحسوبة. بعبارة اخرى فقد كانت هناك افاق لمشاريع عديدة مشتركة بين اطراف المثلث، الا ان عدم احراز تقدم سياسي على الجبهة الفلسطينية الاسرائيلية بل وتفاقم العلاقات وقرب انهيار العملية السلمية عطل تنفيذ تلك الاتفاقات. ومهما يكن من امر فان حجم التبادلات المباشرة بين الاردن من جهة والمناطق الفلسطينية واسرائيل من جهة ثانية يعتبر محدودا، الا ان حالة عدم الاستقرار انعكست على اداء بعض القطاعات الحيوية مثل السياحة التي بدأت تستعيد عافيتها، الا ان قرع طبول الحرب على الجبهة العراقية والتخوف من استغلال رئيس الحكومة الاسرائيلية شارون لتفاقم الاوضاع الاقليمية يهدد باعاقة التطور في اعداد القادمين. كذلك فان غياب الاستقرار السياسي الغى امكانية استقطاب استثمارات اجنبية تساهم في التخفيف من مشكلتي الفقر والبطالة التي تعاني منها دول المنطقة ومن بينها الاردن. وما يقلق الاردن بشكل خاص هو انه يخوض برنامجا للاصلاحات الاقتصادية منذ نحو 10 سنوات، ومع بدء تحقيق نمو قابل للاستمرار وحقيقي يتجاوز معدلات النمو السكاني، فان ما يجري على الجبهتين الغربية والشرقية وتداعيات ذلك يؤثر على المسيرة التي تحمل فيها المواطن الاردني العبء الاكبر، حيث ان برنامج الاصلاح كان في الاساس برنامجا انكماشيا اعتمد على ترشيد النفقات الحكومية و زيادة معدلات الضريبة المستوفاة، كل ذلك بهدف تقليص عجز الميزانية، ولحسن حظ الاردن، وربما لحسن تنفيذ برنامج الاصلاح والتدرج في تنفيذه، فان الكثير من الاجراءات مرت دون ثمن اجتماعي وسياسي باهظ. وباتت بعض انجازات الاردن في مجال الاصلاح نموذجا يروج له البنك الدولي. يقول في هذا الاطار مسؤول رسمي اردني ليس من السهل ان تخلق الاجواء المناسبة، ولكن من السهل فقدان ثقة الاسواق خلال وقت قصير. على العموم فان حالة التوازن الدقيق بين المصالح السياسية والاقتصادية على المديين القصير والطويل، وكذلك مراعاة مصالح جماعات الضغط، وما يضاف اليها من مشاعر مؤيدة للعراق وغير قادرة على استيعاب حجة ضرب العراق مقارنة بما يجري في فلسطين، كلها تعتبر عناصر مهمة، وتؤخذ بعين الاعتبار عند اتخاذ موقف حاسم مما يجري، ومرة اخرى يعود العامل الخارجي ليكون عنصرا مهما في صناعة السياسة الاقتصادية الاردنية، وهو ما لا ينسجم مع توجه الاردن خلال العقد الماضي بالتركيز على ترتيب البيت من الداخل اولا، وانتهاج سياسات عمدت الى تشجيع القطاع الخاص والتركيز على اصلاح الاداء في مختلف القطاعات الاقتصادية.

* باحث ـ مركز الدراسات الاستراتيجية (الجامعة الاردنية)