هل يعيد الفرنسيون تجربتهم بدخول السوق السعودية؟!

سليمان العبد الهادي *

TT

شهدت الشركات الفرنسية تراجعا مستمرا في نشاطها ووجودها داخل السوق السعودية على مدى اكثر من عقدين، وبات نصيب الشركات الفرنسية والمستثمرين الفرنسيين يمثل نسبة ضئيلة في قطاع البضائع والخدمات في السوق السعودية نسبة الى غيرها من الشركات العالمية، بل ان ظاهرة خروج الشركات الفرنسية من الساحة السعودية ازدادت لعدم مقدرة الشركات الفرنسية على المنافسة في الحصول على مشاريع ضخمة.

وعلى الرغم مما تمتاز به الصناعة الفرنسية من معايير رفيعة للجودة والشهرة العالمية والخدمات المتميزة، الا ان التساؤل عن اسباب هذا الاخفاق في اقتحام السوق السعودية واثبات الجدارة به يبقى سؤالا مشروعا، ولعل الاجابة عليه تكمن في كون الفرنسيين ظلت تلازمهم عيوب اهتمامهم المفرط بـ «البريستيج» وتمسكهم بأساليب بروتوكولية متأصلة في الشخصية الفرنسية، وهي سمات باتت قديمة وغير موائمة لمقتضيات التجارة الدولية والاستثمار العالمي في عصر الانفتاح والتنافس المحموم، فرغم الدخول المبكر للشركات الفرنسية الى السوق السعودية وبصحبتها منتجات مشهود لها بالجودة العالمية من صناعات عسكرية ومدنية وملبوسات راقية وعطور فاخرة، الا ان العقلية الفرنسية حافظت على انغلاقها، ولم تسع الى ابتكار اساليب متجددة تساعدها على اثبات وجودها والحفاظ على ثباتها في السوق السعودية، التي تحتدم بها المنافسة بين مختلف الشركات العالمية للفوز بنصيب وافر من المشروعات التي تؤهلها لبيع سلعها وخدماتها. فكل ما فعلته الشركات الفرنسية في ضوء هذه المعطيات ان تقوقع ممثلوها ضمن اطار انطباعاتهم التقليدية، ولم يقوموا باعداد اية دراسات لتقصي حقيقة المتغيرات في السوق السعودية ومتطلباتها، واعتماد ما يلزمها بالتالي من سياسات ترويج وتسويق برعت بها غيرها من الشركات الاجنبية ورصدت لها ميزانيات ضخمة، بل ظهرت شركات متخصصة بهذا الجانب من الاعمال. فضلا عن ذلك، فقد ساهم ركون منسوبي الشركات الفرنسية ومن ورائهم وزارة التجارة الفرنسية والسفارة الفرنسية وعدم اطلاعهم وتعرفهم على عقلية التاجر السعودي وخصوصية السوق السعودية في زيادة الهوة بين حصة الشركات الفرنسية وغيرها من الشركات الاجنبية في تلك السوق، وزاد من اتساع تلك الهوة، اهمال تلك الهيئات الى تقديم الاستشارات اللازمة للشركات ورجال الاعمال والتجار الفرنسيين الزائرين والراغبين في طرق بوابات الاستثمار في السوق السعودية.

الى جانب هذا، فقد اغفلت الجهات الفرنسية المختصة، وكذلك الشركات الفرنسية اهمية الشريك السعودي الذي يعد بمثابة «الدليل» اللازم للولوج الى بواطن السوق السعودية. فالمستثمر الاجنبي ايا كان حجمه عند دخوله الى المملكة بغرض الاستثمار لا يملك الدراية الكاملة بحيثيات عملية الاستثمار او اي السبل ينتهج ومن يخاطب، وبالتالي فإنه يبقى في امس الحاجة الى من يرشده. ونتيجة اغفال الفرنسيين لهذا الجانب فقد وجدوا انفسهم بعد حين خارج الملعب، وكان مصير عدد كبير من الشركات ان اقفلت ابوابها وشدت رحالها خارج المملكة، ذلك ان مسؤولي الشركات الفرنسية ظنوا انفسهم مجرد موظفين يتقاضون رواتب وهم قابعون خلف مكاتبهم ينتظرون ورود المعلومات والصفقات اليهم، وان وصلت فهم يجهلون كيفية التعامل معها، فغابت عنهم عقلية التاجر النشط الذي يسعى دوما الى تطوير اساليب معاملته مع زبائنه، وابتكار اساليب تواكب متطلبات تطور السوق، فبات الفرنسيون وشركاتهم اشبه بالطبيب البارع الذي يملك القدرة على اجراء اشد العمليات تعقيدا، ولكنه يقبع بمعزل عن الناس فلا يجد وسيلة تعرف الناس به، فيبقى كماً مهملا وينزوي مع النسيان.

فالسوق السعودية تضم شركات صغيرة ليست لديها الخبرة التي تضاهي خبرة وعراقة الشركات الفرنسية، ولكنها استطاعت ان تستأثر بنصيب الأسد من مشاريع السوق السعودية لانها استطاعت الاستفادة من خبرة من يعرفون السوق السعودية وكيفية التعامل معها. الا ان نصيب الشركات الفرنسية كان معدوما، فخلال الاثنتي عشرة سنة الماضية لم تحصل الشركات الفرنسية على نصيب يذكر من السوق السعودية الحافلة بمشاريع بمليارات الدولارات. فهل يا ترى اكتفى الفرنسيون من الغنيمة بالاياب؟! يقول المثل الفرنسي «ان تصل متأخرا خير من ان لا تصل ابدا»، ولعل الفرنسيين يدركون دلالة هذا المثل اكثر من غيرهم، فما زال هناك متسع من الوقت للافادة من التجربة وليعيد الفرنسيون النظر في اساليبهم التي اصبحت من مخلفات الماضي، وهنا يأتي دور وزارة التجارة الخارجية الفرنسية والذي يقضي بضرورة استنفار اجهزتها والاستفادة من تجارب العولمة، والعمل على الكشف عن مواطن الخلل واصلاح ما افسده الفرنسيون بأيديهم، واستعادة ما فقدوه من نصيب في السوق السعودية.

فمما لا شك فيه ان الفرنسيين يعضون اصابع الندم على ما اقترفوه بحق انفسهم وهم يرون الصفقات تتخطف من امامهم وهم لا يملكون امام ذلك سوى الوقوف موقف المتفرج، غير قادرين على تحريك ساكن نتيجة لتجربتهم الفاشلة في تشييد بنية صلبة في السوق السعودية، غير ان الفرصة ما زالت سانحة لاستدراك ذلك امام فرنسا بشركاتها ومؤسساتها التجارية وسياساتها الخارجية ان هي كانت تعي ذلك.

* اقتصادي سعودي