عقود إعادة إعمار العراق بين المصالح والاشكاليات

نواف التميمي

TT

حتى قبيل سقوط بغداد واختفاء أركان النظام العراقي وانتهاء العمليات العسكرية، اخذت الاعلانات تتوالى عن عطاءات منحتها ادارة الرئيس جورج بوش ممثلة بالوكالة الاميركية للتنمية الدولية لشركات أميركية بهدف اعادة اعمار العراق. وتجاوزعدد العقود التي منحتها الوكالة خمسة من اصل تسعة مشاريع معروضة، وخص الأول منها اصلاحات الامداد الكهربائي، ونظم شبكات المياه والصرف الصحي، وقد منح العقد لمجموعة «بكتل» في 17 أبريل (نيسان) مقابل 34 مليون دولار، لكن قيمة العقد على مدى 18 شهراً تصل الى 680 مليون دولار. وحصلت شركة «كرييتيف اسوسييتس انترناشيونال» في 11 ابريل على عقد اولي بقيمة مليوني دولار، لكن قيمة العقد تصل الى 62 مليون دولار على مدار سنة كاملة. ويتضمن العقد تطوير المدارس وتدريب المدرسين. ومنح لـ«ريسيرتش تراينغل انستيتيوت» عقد بقيمة 7.9 مليون دولار، ويسعى المشروع الى تعزيز المشاركة العراقية في كل اوجه اعادة الاعمار، بينما يتم نقل الادارة الى ايد عراقية.

كما منح في 24 ابريل عقد بقيمة 4.8 مليون دولار لشركة «ستيفدورنج سيرفيسيز اوف اميركا». وعطاء اخر يتضمن مساعدة الوكالة الاميركية للتنمية الدولية في تخطيط وادارة مشاريع اعادة الاعمار. ومنح عقد بقيمة 7 ملايين دولار في 24 فبراير (شباط) لمدة 90 يوما قابلة للتمديد الى سنة لمجموعة «انترناشونال ريسورسيز». واخيرا منحت شركة «دين كورب انترناشونال» في فرجينيا عقدا قيمته 50 مليون دولار لاختيار مستشارين تمهيدا لتدريب الشرطة العراقية. وافتتحت الحكومة الاميركية هذه العقود بمنح شركة «هاليبورتون» التي كان يرأسها ديك تشيني نائب الرئيس الاميركي عقودا لتقييم الوضع واطفاء حرائق ابار نفط في العراق وتقديم خدمات للسيطرة على الابار.

ويتوقع ان تمنح وكالة التنمية الدولية الاميركية مجموعة من العقود قيمتها 600 مليون دولار لعملية طارئة لاعادة بناء المرافق والطرق والجسور والمباني العامة. ويقدر برنامج الامم المتحدة للتنمية تكلفة اعادة بناء العراق بحوالي 30 مليار دولار في السنوات الثلاث القادمة. بينما يقدرها البعض الاخر بأكثر من مائة مليار دولار في محاولة يقارنها البعض بإعادة بناء اوروبا بعد الحرب العالمية الثانية في النصف الثاني من الاربعينات.

تمرير الادارة الاميركية لعقود اعادة اعمار العراق الى شركات أميركية اثار الكثير من التساؤلات والمخاوف، بل والاستنكار لدى الاوساط السياسية والاقتصادية والاعلامية داخل الولايات المتحدة وخارجها، في روسيا وأوروبا والعالم العربي وحتى كوبا والهند وفنزويلا والارجنتين. غير أن هذه الاوساط سرعان ما بدأت تخرج من حالة المفاجأة او الصدمة وتستوعب ان الادارة الاميركية «المنتصرة» في الحرب على العراق تتصرف تبعا لمصالحها الداخلية والخارجية، وأن الرئيس بوش شخصيا يريد أن ينتهز الفرصة لرد الجميل للشركات الأميركية الكبرى، وخاصة النفطية منها التي دعمته ماديا ومعنويا للفوز بالانتخابات الرئاسية الماضية، كما أنه يطمح لنيل الدعم ذاته في الانتخابات المقبلة ليتمكن من البقاء في البيت الأبيض لفترة رئاسية ثانية.

كما أن الادارة الأميركية تريد مكافأة الشركات التي وقفت الى جانبها في قرار الحرب على العراق، خاصة أن القرار جاء في غضون فترة صعبة للاقتصاد الاميركي، وترى في هذه العقود مخرجا مهمة لانعاش الاقتصاد الاميركي الذي ظل في حالة من التباطؤ الأكثر قربا من الانكماش منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر (ايلول)، مما حدا بالرئيس بوش الى اقرار خطة خفض الضرائب لان تكلفتها ستصل الى 670 مليار دولار على مدار عشرة أعوام.

أما سياسيا فربما جاء تخصيص أدارة الرئيس بوش للشركات الأميركية أولا والبريطانية ثانيا بأهم العقود رسالة «تأديب» للشركات الأوروبية ( الالمانية ـ الفرنسية ـ الروسية)، التي لم تتمكن من الضغط على حكوماتها لصالح التأثير في مواقفها السياسية من مسألة استصدار قرار من مجلس الامن يسمح للادارة الاميركية صراحة بقيادة تحالف دولي لنزع اسلحة الدمار الشامل العراقية باستخدام القوة.

وأخيرا لا يمكن استبعاد العامل الشخصي أو الذاتي، خاصة اذا علمنا أن شركة مثل «هاليبورتون» كان رئيسها التنفيذي السابق ديك تشيني نائب الرئيس بوش وأن جورج شولتز، الذي شغل منصب وزير الخارجية في ادارة الرئيس رونالد ريغان، كان رئيساً لشركة «بكتل»، وهو الآن احد كبار مستشاريها. وقد عمل شولتز في الشركة الى جانب كاسبار واينبرغر، الذي اصبح في ما بعد وزيرا للدفاع. اما الرئيس التنفيذي الحالي للشركة، رايلي بكتل، فقد حظي باختيار الرئيس الاميركي جورج بوش لينضم الى مجلس الرئيس للصادرات. اما وزير الدفاع الحالي دونالد رامسفيلد فقد فاوض صدام حسين في 1983 لتمكين شركة «بكتل» من بناء خط انابيب يوصل النفط العراقي عبر الاردن الى ميناء العقبة. وكما أثار قرار الادارة الاميركية باستخدام القوة ضد العراق بعيدا عن أي غطاء دولي كثيرا من الجدل داخل الولايات المتحدة وخارجها فان سلوك الادارة الاميركية يثير اشكالا قانونيا، على مستوى القانون الدولي يتمثل في مدى أهلية الولايات المتحدة كـ«سلطة احتلال» بالتصرف في أموال وثروات العراق في ظل غياب اي حكومة تعبر عن الارادة السياسية والاقتصادية للعراق وشعبه. واذا ما استطاعت ادارة الرئيس بوش تجاوز هذا الاشكال بنفس الطريقة التي تجاوزت بها الخلافات الفقهية والسياسية التي واجهت قرار الحرب فانها تواجه اشكاليات اكثر تعقيدا، فعلى المستوى الداخلي تواجه ادارة الرئيس بوش اسئلة محرجة بخصوص هذه العقود فقد طرحت رئيسة لجنة بمجلس الشيوخ الاميركي وهي جمهورية واربعة من الاعضاء الديمقراطيين مشروع قانون يطالب الوكالات الاتحادية بتقديم تفسير علني لاسلوب اختيار الشركات التي تقدم عطاءات لمشروعات اعادة الاعمار في العراق. وقال اعضاء مجلس الشيوخ ان الرأي العام الاميركي يستحق ان يطلع على اجابات وتطمينات بانه سيحصل على قيمة ما دفع. أما أوروبيا فان سلوك الادارة الاميركية يثير شكوك ومخاوف الشركات الاوروبية، خاصة الالمانية والفرنسية وايضا الشركات الروسية فهذه الشركات التي تنتمي الى «دول الضد» ترى ان عقود اعادة الاعمار ستكون المناسبة الافضل لانتقام الادارة الاميركية من مواقف الحكومات التي عارضت قرار الرئيس بوش للقضاء على نظام صدام حسين باستخدام القوة وخارج اطار مجلس الامن. وهو ما عبر عنه كلاوس فريدريش خبير شؤون الشرقين الادنى والاوسط في جمعية «في.دي.ام.ايه» الهندسية الالمانية بالقول «اذا دخلت السياسة في عملية ارساء الطلبيات فقد يزيد ذلك من الصعوبة التي ستواجهها الشركات الالمانية، لكن ربما تكون هناك بعض الامكانات من خلال التعاقدات من الباطن او ان تكون لديهم تكنولوجيا لا توجد لدى غيرهم». أما شركات الدول الحليفة (بريطانيا واسبانيا) فانها لا تخفي مخاوفها من الحصول على عقود ثانوية (من الباطن) لا تمثل الا الفتات من الكعكة التي ستتقاسمها الشركات الاميركية! وربما ليس كل الشركات الأميركية!