الدكتور نعمان جبار:إعادة تأهيل الزراعة وتحديث قوانينها أهم واجبات المرحلة القادمة

منسق الزراعة في لجنة إعادة إعمار العراق في حديث لـ«الشرق الأوسط»: إحياء مركز أبحاث النخيل واستحداث مديرية لزراعة النخيل مهمة عاجلة

TT

تعكف لجنة من الخبراء والشخصيات العراقية المتخصصة على اعداد عدد من اللوائح الانظمة الادارية والبرامج لتسيير الوزارات العراقية ضمن لجنة اعادة اعمار العراق، وبالرغم من كون هؤلاء الخبراء يعملون بالظل لاعادة تأسيس تلك المؤسسات العراقية على اسس جديدة فإن مستقبل العديد من هؤلاء سيكون على رأس تلك الوزارات نظراً لنوع وطابع المسؤوليات الملقاة على عاتقهم في هذه الفترة، ومن هؤلاء التقت «الشرق الاوسط» عبر الهاتف مع الدكتور نعمان جبار عضو لجنة اعمار العراق والمنسق لوزارة الزراعة العراقية قبيل عودته الى العراق بعد رحلة لمتابعة عمله.

* لا بد ان حجم برنامج القطاع الزراعي من الكبر بما يعادل حجم المأساة التي تركها النظام البائد في هذا القطاع. ما هي اولويات لجنة تأهيل القطاع الزراعي في مجلس إعمار العراق بخطوط عامة.

للحديث عن القطاع الزراعي في العراق علينا التذكير بان هذا القطاع هو المفصل الأساسي للتنمية الاقتصادية والاجتماعية الذي تم إهماله بشكل يتناقض مع ما يطمح إليه المواطن العراقي وذلك بسبب التخبط واللاعقلانية في مجمل السياسات الاقتصادية من قبل النظام المقبور، حيث تم تسخير كل الموارد المالية والمادية والبشرية في العراق في تثبيت سلطة صدام وأطماعه في الهيمنة على المنطقة من خلال حروب عبثية كلفت البلاد كامل إجمالي الدخل الوطني لدرجة إن العراق أصبح مدينا بارقام فلكية من مليارات الدولارات، فضلا عن ضحايا حروبه ومقابره الجماعية من الشعب العراقي بما يجعل عددهم يقترب من مليوني عراقي بين قتيل ومعوق.

إن أهمية القطاع الزراعي تكمن في قدرته على المساهمة في تكوين إجمالي الدخل والإنتاج القومي بما يعادل أكثر من 40% من الناتج المحلي، وذلك من خلال توفر كافة مستلزمات تطويره من ماء وأسمدة ومكافحة آفات وتهيئة تربة (في أرض الرافدين الخصبة)، وكذلك الأيدي العاملة. إن العراق بالأساس هو بلد زراعي كان عليه أن يكون موقعه في الاقتصاد الإقليمي متميزا لو أدير بشكل علمي وجيد. الاهتمام بآليات تطويره، وكذلك كان بالإمكان للقطاع الصناعي أن يتناغم مع القطاع الزراعي لإكمال الدورة الاقتصادية الايجابية المتعلقة بالتنمية المستديمة لكل العراق والمنطقة. إلا إن تسخير موارد العراق في خدمة التصنيع العسكري وعسكرة المجتمع حال دون تطوير هذا القطاع الأهم في الاقتصاد العراقي.

كما إن الزراعة والصناعة الوطنية غير العسكرية لها علاقة مباشرة بقضايا البيئة التي هي الأخرى قد دمرت نتيجة سياسات النظام المقبور.

* المشكلات الآنية والأكثر إلحاحا

* وتواجه القطاع الزراعي مشاكل غاية في التعقيد وقسم من هذه المشاكل لا يمكن أن تحل إلا بإصدار قوانين جديدة وهذا ما ستقوم به الحكومة العراقية الوطنية المقبلة. وما يعنينا هو المشاكل المتعلقة بالجانب الفني الآني والملح.

ومن هذه المشاكل هي ظاهرة التصحر الذي اخذ يزحف في كثير من الأراضي الزراعية نتيجة الإهمال المتعمد. أما لكون الأيدي العاملة قد جندت في حروب صدام او لقلة المياه، خاصة إذا علمتم إن المياه التي تخزن في مشروع الثرثار تحول الى بحيرة الرزازة المالحة والتي لا يمكن إعادة استخدامها مرة أخرى وذلك لغرض حرمان مناطق الوسط والجنوب من هذه المياه وبالتالي من الزراعة وحجب المياه التي ربما تصل الى الأهوار.

لذا فان مسألة التصحر التي أخذت تزحف على الأراضي الزراعية وهي نتيجة هذه السياسة الخبيثة للنظام، إضافة الى قلة المياه الواردة في حوضي دجلة والفرات نتيجة السدود التركية التي أقيمت في حوضيهما (مشروع كاب).

أما مسألة الملوحة فهي الأخرى نتيجة لسياسة النظام لتدمير العراق، فمعظم الأراضي التي تترك لفترة طويلة سوف تتملح إضافة إلى إهمال تطهير المبازل الفرعية والرئيسية مما أدى الى توقف عمليات البزل في كثير من المشاريع الزراعية (بعض المبازل استخدمت كقبور جماعية).

هذه المبازل بحاجة الى إعادة تأهيلها وتطهيرها وفتح المبازل التي دمرت نتيجة الحروب. وهذا العمل يتطلب جهوداً كبيرة وتعاون بين الجهات ذات العلاقة كوزارة الري ووزارة الأشغال والإسكان وهو مشروع سيقع على عاتق الحكومة الوطنية العراقية المقبلة، ولكن في المرحلة الراهنة هناك خطة للبدء في المبازل الرئيسية وحسب الامكانات المتوفرة وحسب الأهمية.

إن معظم الأراضي الصالحة للزراعة هي الآن إما متروكة او كانت متروكة نتيجة أن الغالبية العظمى من الأيدي العاملة في هذا القطاع قد جندت في حروب صدام، لذا من الأولويات الآن تشجيع الفلاح والمزارع العراقي على العودة الى أرضه واستثمارها وذلك من خلال توفير المستلزمات الضرورية من بذور وأسمدة ومواد مكافحة وآلات زراعية وهذا بالتأكيد يحتاج الى جهود كبيرة وتعاون فعال بين كل الجهات التي لها علاقة بالعملية الزراعية كالوزارات المعنية بهذا الأمر.

* تسويق المحاصيل لهذا الموسم مهمة عاجلة

* من الأولويات الملحة إيجاد نظام تسويق للمحاصيل الزراعية لهذا الموسم وهي مسألة غاية في الأهمية والأولوية الآن، لأن المحاصيل الزراعية مكدسة لدى المزارعين والفلاحين ولا تجد طريقا للتسويق لأن الأسعار لحد الآن لم تحدد كما لم تحدد بعد عملية الدفع وقد استغل تجار الحروب هذه المشكلة واخذوا بشراء المحاصيل الزراعية من المزارعين والفلاحين بأسعار بخسة ربما لا تسدد تكاليف الإنتاج وذلك نتيجة حاجة الناس.

* جرائم النظام المقبور شملت كل جوانب الحياة حتى النخيل الرمز الخالد لبلاد الرافدين

* كما ان غابات كردستان الجميلة لم تسلم من التدمير على يد زمر البعث الفاشية.

العراق بلد النخيل الأول يحوي 70% من نخيل العالم و75% من إنتاج العالم حسب إحصائيات 954. الآن وبعد حروب البعث لم يبق من هذه الثروة الا ملايين معدودة ولم يعد العراق من العشرة بلدان الأوائل المصدرة للتمور.

اعتقد من الاولويات في هذا الجانب هو اعادة تأهيل مركز أبحاث النخيل وتوفير كل الامكانات الفنية والمالية للقيام بمهامه البحثية.

كما اعتقد ان هناك اهمية قصوى لاستحداث مديرية عامة لإعادة زراعة النخيل وتطبيق الزراعة الحديثة وزراعة الاصناف المنتقاة وتوفير الفسائل للانواع الجيدة كما تقوم هذه المديرية بتوفير المساعدات الفنية والمالية للمزارعين.

حقيقة ما ينطبق على النخيل في الوسط والجنوب ينطبق على غابات في كردستان. كما ان هناك أولوية إعادة تشغيل وتأهيل كافة المشاريع الزراعية بجانبها النباتي والحيواني ومن ضمنها المشاريع التي لم يعد لها مالك الآن والتي استولى عليها النظام وأزلامه وبعض الطفيليين من المتعاونين معه، وإعادة استثمار هذه المشاريع من اجل توفير لقمة الخبز الى العراقيين الى ان تقوم الحكومة العراقية المقبلة بسن القوانين التي تحدد طبيعة هذه المشاريع، وبالمناسبة هي من أضخم المشاريع في العراق.

* كيف يمكن النهوض بالقطاع الزراعي بجهاز قديم غالبيته من موظفي النظام البائد.

ـ ما يتعلق في الجهاز القديم في وزارة الزراعة نعتقد ان هذا الجهاز ليس كله متورطاً في جرائم النظام او كله من العناصر غير الكفوءة. فهناك كوادر علمية وفنية عالية التأهيل ومخلصة للوطن ولم تشترك في جرائم النظام ومعظم هذه الكوادر هي مبعدة عن مراكز القرار، وليس لها أي دور فني او إداري. وبالمقابل هناك عناصر من النظام تبوأت المراكز الحساسة ليس فقط في وزارة الزراعة ولكن في كل الوزارات وهؤلاء سيستبعدون ويعودون من حيث أتوا إذا لم يشتركوا بجرائم النظام اما المتورطون فان الحكومة الوطنية ستحاسبهم من خلال القوانين الجديدة.

يكفي للتدليل على مدى الاستهانة بالعلم والكفاءة هو ان رئيس ما كان يسمى بالمجلس الزراعي الأعلى هو عزة الدوري وهو شخص أمي وجاهل. أما وزير الزراعة فكان مجرما محترفا واميا وبامكانك القياس على ذلك.

* هناك مشاكل حديثة في القطاع الزراعي أبرزها التلوث البيئي جراء استخدام تجارب الأسلحة الكيماوية والفضلات النووية وشحة المياه كيف تواجهون هذه المشاكل.

ـ من المشاكل التي تواجه القطاع الزراعي في المرحلة الراهنة والمستقبل أيضا هي مسألة التلوث متعدد المصادر، فبالإضافة الى التصحر والتملح الذي أصاب مساحات واسعة من الأراضي الزراعية، هناك مشكلة التلوث الذي أصاب التربة العراقية والمياه السطحية والجوفية وربما النبات والحيوان أيضا.

فمياه دجلة والفرات تعتبر مياهاً ملوثة لعدة أسباب. أولا ان هذه المياه تأتي محملة بالملوثات والأملاح من البلدان التي تمر بها نتيجة رمي الفضلات الصناعية ومياه المبازل ونتيجة قلة هذه المياه تتركز فيها هذه الملوثات والاملاح.

اضافة الى ذلك أدى الجهل المطبق لدى المسؤولين المشرفين على التصنيع وخاصة القطاع العسكري، جعل نظم ادارة هذه المصانع وعملية التخلص من فضلاتها لم يكن على أسس علمية حضارية. لذا كانت فضلات هذه المعامل اما تصرف مباشرة الى الانهار، أو ترمى على سطح الأرض او توضع في حفر وهذه هي الأخرى سوف تصل الى المياه الجوفية او تثبت في التربة وهي في معظمها من المعادن الثقيلة السامة (نفايات نووية) او نفايات كيمياوية.

ناهيك استعمال مواد مكافحة الأمراض والحشرات الملوثة والتي يستوردها التجار من أزلام النظام دون النظر الى ما تسببه هذه المبيدات على البيئة والتي تم حظر بعضها في بلدان تصنيعها.هذا ينطبق على الإنتاج الحيواني أيضا حيث ان معظم الأعلاف محتوية على أمراض وفيروسات أصبح البعض منها مستوطنا في العراق.

* تم تحويل نظام الري في العراق في الغالب لمتعة الحاكم المخلوع. هل سيجري تحويل البحيرات الصناعية وقنوات الري والاهوار الى بيئة إنتاجية.

ـ نظام الري في العراق هو الآخر قد دمر ويجب إعادة تأهيله من خلال تطهير المبازل الفرعية والرئيسية وإعادة الحياة الى الأنهر التي تركت او حولت لأغراض خاصة، وخاصة مزارع عائلة صدام والمقربين من النظام المقبور واستثمارها لارواء الأراضي المجاورة والتي كانت محرومة من مياه السقي نتيجة منع عائلة النظام والمتنفذين من استخدام هذه المياه من قبل الآخرين.

القطاع الزراعي بحاجة الى مسح ميداني سريع للوقوف على مجمل المشاكل التي يعاني منها وخاصة في مجال المعرفة الدقيقة للمبازل وقنوات الري المدمرة وتحديد أولوية تطهيرها وكذلك الأنهر.

يجب ان أؤكد هنا ان عملية تجفيف الأهوار من قبل النظام البائد تعتبر جريمة العصر البيئية والإنسانية بكل المقاييس حيث ان هذه الجريمة أدت الى الإخلال بالتوازن البيئي ليس في العراق فحسب وانما في المنطقة بكاملها. وهجر سكانها البالغ عددهم أكثر من 500 ألف نسمة. وتم القضاء على كافة الكائنات الحية النادرة في هذه المسطح المائي ذي الثماني عشر الف عاما. فلا اسماك ولا طيور ولا بقية الحيوانات النادرة الأخرى، علما ان هذه الأراضي لا يمكن اعتبارها اراضي زراعية لأنها أراض ملحية ومنخفضة أي ان الماء الجوفي فيها قريب من السطح. وهي تربة لا يمكن صرفها.

* وهل هناك برامج ملموسة للتصدي للمشكلات البيئية؟

ـ هناك برنامج طموح تتولاه منظمات عراقية مهمة بهذا الموضوع بالتعاون مع منظمات بيئية دولية أخذت على عاتقها الاهتمام بالأهوار العراقية. لكن ما يتعلق بالمشروع المستقبلي من قبل الحكومة العراقية الوطنية القادمة فأعتقد انه سيكون بالتعاون بين وزارات عديدة، كوزارة التربية ووزارة الزراعة ووزارة المواصلات ووزارة الأشغال والإسكان، للقيام بعمل متكامل لإعادة تأهيل الأهوار وجعلها منطقة سياحية تعتبر من أجمل وأعرق مناطق العالم.

نحن بحاجة الى أجراء بحوث علمية دقيقة لدراسة مدى تأثيرات التلوث الحاصل في التربة العراقية وفي الحقول الزراعية وما هي العناصر الملوثة ومدى تأثيرها على الصحة العامة، حيث من المعروف ان جزءاً من هذه العناصر سوف تثبت في التربة الى زمن طويل، والجزء الآخر يمكن للنبات امتصاصه وبكميات صغيرة، ولكن خلال الاستهلاك البشري تتراكم هذه المواد الثقيلة في دم الإنسان او في أجزاء أخرى من الجسم. وهذا ينطبق على الحيوانات أيضا.

اما بخصوص البحيرات الصناعية التي أنشأها صدام لتسخيرها لمتعته ومتعة مقربيه فأعتقد ان الحكومة القادمة سوف لن يفوتها هذا الجانب وسوف تجعل منها منتزهات سياحية. وأنا شخصيا أحلم ان أرى أطفالنا يتمتعون بها أثناء سفراتهم المدرسية.