الحكم الجيد مفتاح التنمية البشرية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا

TT

باتت عوامل دخول ما يزيد على أربعة ملايين شاب وشابة سنوياً إلى سوق العمل في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، واستمرار تبني النموذج الانمائي القديم، وتقلص الثروة النفطية تؤثر سلبا على قدرة الحكومات على الاستمرار في دعم قطاعات الصحة والتعليم والتشغيل مقابل كسب ولاء الشعب. وهذا يجعل عملية تبني بلدان الشرق الأوسط وشمال افريقيا لنظام ادارة حكم قائم على التضمينية (وتعرف ايضا بالاندماج) والمساءلة لتحسين نموها وتقديمها الخدمات وزيادة مشاركة الفقراء في صنع القرارات المتعلقة بمستقبلهم تتخذ اهمية قصوى.

يبين تقرير البنك الدولي الذي صدر تحت عنوان «الحكم الجيد لأجل التنمية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا» قبيل الاجتماعات السنوية في إمارة دبي ان الآثارالسلبية لضعف ادارة الحكم في منطقة لا يستهان بها. وذلك لعدد من الاسباب أبرزها:

أولاً، يحرم ضعف أداء ادارة الحكم المواطنين من حقهم في التنمية البشرية، التي ترتكز على ضمان الحريات والحقوق المدنية الأساسية، كالمساواة والمشاركة. كما ينعكس سلبا على النمو الاقتصادي. وتشير التحليلات التي تقارن بين بلدان منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا وغيرها من البلدان في مناطق أخرى لها نفس الحجم والتركيب، أن الضعف النسبي لادارة الحكم في منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا - والذي يمكن قياسه على الأخص عبر قياس المستوى النوعي للإدارة - قد سبب انخفاضا في النموالاقتصادي يعادل 1 في المائة.

وتؤثر إدارة الحكم على النمو والاستثمار من خلال قنوات رئيسية ثلاث وهي على التوالي: - عملية رسم السياسات الاقتصادية، ونوعية وتكاليف الأحكام الادارية، والتوفير الجيد للخدمات العامة. وقد اظهر البحث أن الأنظمة الخاضعة للمساءلة تنتج، في المعدل، سياسات أفضل، كما أن قدرا اكبر من الشفافية يؤمن التوصول الى المعلومات اللازمة للاشراف على نوعية السياسات ومراقبتها. بالاضافة الى ذلك، تردع العملية التنافسية ما بين مسؤولي القطاع العام القادة عن تبني سياسات سيئة أو غير ملائمة، كما تردعهم عن المماطلة في اتخاذ القرار في حال سوء تنفيذ السياسات. تعتبر حالة التقلب وما يواكبها من كلفة عالية على الأدارات الحكومية واحدة من المشاكل الرئيسية التي يعاني منها القطاع الخاص حول العالم وخصوصا في منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا. وتعتبر سيادة القانون ضروريةً حيث افادت حوالي 70 في المائة من الشركات التي شملت في مسح ميداني بأن عملية سن القوانين وتعديلها وتطبيقها قلما تصب في مصلحة نشاطات هذه الشركات. كما أن بطء الطرق المتبعة في حل النزاعات القضائية يعتبر مصدرا كبيرا لقلق الشركات. والمطلوب المزيد من الشفافية في الطريقة التي تنفذ فيها القوانين والإشراف الأفضل من قبل الإداريين، وفتح قنوات أفضل لمشاركة الشركات في صياغة السياسات التنظيمية للمساعدة على مكافحة الفساد.

يعيق القصور في إدارة الحكم النمو الاقتصادي عبر إضعافه الخدمات العامة التي تحتاجها الشركات، مثل البنى التحتية للتجارة والنقل، المرافق العامة المنظمة، النظام المالي الفعال، والعمالة المدربة والكفؤة. فالمرافق العامة غير الموثوق بها تجبر رجال الأعمال على البحث عن حلول بديلة مما يتسبب عادة بتكاليف أعلى. فعلى سبيل المثال، حوالي نصف الشركات الكبرى في الجزائر وربع الشركات الصغيرة في المغرب تمتلك مولدات كهربائية وآبار مياه خاصة بها. هذه الكلفة الأضافية غير الضرورية تضعف قدرة الشركات في كثير من الأحيان على المنافسة.

لقد نجحت حكومات منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا خلال العقد الماضي في توفير المزيد من الخدمات الأساسية لشعوبها. فلماذا، إذن، نعلق هذا القدر من الأهمية على الفجوة في إدارة الحكم؟ إن ضعف التضمينية يهدد المكاسب التي تحققت في العقود الأخيرة في مجال الخدمات الأساسية. لقد أدت الضغوط الناجمة عن ارتفاع عدد السكان والتوسع السريع للحياة الحضرية وتعقيد الخدمات العامة الحديثة المتزايد إلى صعوبة تغطية الكثير من الخدمات العامة، الأمر الذي أسفر عن اختلال في المساواة بين الجنسين وظهور فجوات بين المناطق الحضرية والريفية في مجال التعليم وغيره من المؤشرات الاجتماعية. ونتيجة لذلك، فإن الإنفاق السخي من قبل القطاع العام معرض للاندثار لفشله في القضاء على جيوب الفقر واستمرار حرمان العديد من الناس من الخدمات الأساسية، مما يسهم في نهاية المطاف في إعاقة التنمية البشرية. وتشكل مشاركة المواطنين في تصميم الخدمات العامة وتقديمها ومتابعتها استجابة لتعقيدات الخدمات في عصرنا هذا، كما انها تدخل في صميم التحديات التي تواجهها إدارة الحكم في بلدان الشرق الأوسط وشمال افريقيا.

لقد تنبهت بلدان عديدة في المنطقة في السنوات الأخيرة إلى ضرورة الاصلاح، فضاعفت جهودها في دعم أداء الادارة. لكن القوة الدافعة لهذه التغييرات تمحورت، وما زالت تتمحور حول تخفيف البيروقراطية. وفي الواقع نجد عند مقارنة منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا ببلدان ذات مستويات دخل مماثلة انها تشكو من فجوة في إدارة الحكم ناجمة عن ضعف في المشاركة والمساءلة العامة، أكثر مما هي ناجمة عن أداء المؤسسات العامة.

لا تزال الشفافية محدودة في بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. فعلى الرغم من وجود برلمانات في البحرين وإيران والأردن ولبنان والمغرب ومعظم البلدان الأخرى، لا تزال السلطة التنفيذية تحتكر معظم الصلاحيات. ولا تزال الحكومات تحد من توفرالمعلومات. أما الإعلام فلا يزال يخضع لقوانين متشددة ورقابة ومتابعة حثيثة مما يؤدي الى تقليص فرص الحوار العام. وأخيرا وليس آخرا، نادراً ما يخضع المسؤولون الحكوميون لطرق تنافسية في تبوؤ مناصبهم.

إلا أن هذه العوائق التي تعترض تعزيزالشفافية مرجحة للانهيار في نهاية المطاف بفعل ثورة المعلومات. فصار ابناء جيل اليوم في بلدان المنطقة يحصلون على تعليم افضل وصاروا أكثر إلماما بتكنولوجيا المعلومات بالمقارنة مع اهاليهم، مما جعلهم يتوقعون شفافية اكبر من قبل المسؤولين الحكوميين وصانعي السياسات.

لقد أثبتت التجارب المستقاة من جميع أرجاء العالم أن بناء المؤسسات بالارتكاز على التضمينية والمساءلة ليس بالامر السهل، وأنه سيستغرق وقتاً طويلاً، فهو يتطلب التكيف لطرق جديدة والتخلي عن مفاهيم قديمة، وعلى تحدي الجماعات المستفيدة من الوضع القائم. فتحتوي المرحلة الانتقالية التي مرت بها بلدان وسط أوروبا خلال عقد التسعينات من القرن الماضي على عبرة مهمة، ألا وهي أن إصلاح هياكل إدارة الحكم في تلك البلدان قد ساهم في تحسين المناخ الاستثماري الذي ادى بدوره إلى نمو أسرع. الا أن الصورة ليست معتمة في منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا. في الواقع، أن كل الدساتير في بلدان المنطقة تتبنى قيم المساواة والمشاركة والشفافية، وهي ذات أهمية قصوى في التنمية البشرية. ويعتبرالحكم الجيد وسيلة أساسية لضمان هذه القيم لاجل شعوب المنطقة.

* كبير الخبراء الاقتصاديين، منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، البنك الدولي