غربــال ميـاه الديـون العربيــة

الدكتور صالح بن عبد الرحمن بن سبعان*

TT

لمشكلة الديون الخارجية التي تعاني منها الدول العربية وجوه يمكن اعتبارها من نوع المسكوت عنه. فهذه الديون التي تضاعفت في العقدين الأخيرين، حيث لم تتجاوز في عام 1975 خدمتها 1556 مليون دولار، ونالت هذه الدولة في نفس العام قروضاً بلغت 5457 مليون دولار، أي أن حجم التحويلات الصافية بعد خصم خدمة الديون القديمة كان 3901 مليون دولار بلغت القروض الجديدة في عام 1997 نحو 7537 مليونا، الا أن خدمة الديون القديمة وقتها كانت 12 مليار دولار، وفي عام 1980 زاد حجمها الى 49 مليارا، ثم الى 325 مليارا في عام 2000.

الملاحظ في أغلب الأدبيات الاقتصادية أن أسباب وقوع الدول العربية في فخ دوامة الديون المفرغه يرد دائماً الى الطموحات التنموية للنخب الحاكمة، التي تقوم بالاستدانة من الصناديق والبنوك المقرضة لاقامة مشاريع التنمية، وقد تذهب بعض التحليلات الى الحديث عن سوء توظيف القروض، حيث ركزت كثير من الدول العربية على استيراد السلع الاستهلاكية والرأسمالية ذات الأسعار المرتفعة في الوقت الذي قامت فيه بتصدير الكثير من مواردها الطبيعية على شكل مواد خام بأسعار زهيدة، مما عرضها الى أزمات اقتصادية.

كما أن هناك دراسات تركز على لا واقعية الخطط التنموية، وفي هذا الجانب يتم التركيز على سوء التخطيط كواحد من أهم عوامل فشل هذه المشاريع التنموية. ويمكنك أن تقرأ بسهولة هذه اللاواقعيه في التخطيط التنموي حين تلاحظ كيف أن بعض الدول العربية وبرغم توفر كافة عناصر الانتاج الزراعي من أرض خصبة ومياه كافية تهمل كل هذه الثروة، وتنهك ميزانيتها في مشاريع صناعية بلا جدوى بل وتقترض بفوائد كبيرة من أجل هذا الطموح الذي لا معنى له، وتتبدى المفارقة العجيبة حين يعاني مواطنوها من الأزمات الغذائية.

ان مثل هذا النوع من التخطيط للأسف الشديد لا ينعكس على هذه الدولة أو تلك وحدها، وانما ينسحب على كافة الدول العربية، حيث أن المنطقة العربية تعتبر من المناطق الفقيرة جداً من ناحية مواردها المائية مقارنة بالمناطق الأخرى من العالم، ورغم هذا فان مساحتها القابلة للزراعة والتي لا تتجاوز 197 مليون هكتار، وهو ما يعادل 14% من المساحة الكلية للعالم العربي، فان المزروع فعلاً من هذه المساحة لا يتعدى 70 مليون هكتار، بمعني أن هناك 127 مليون غير مستغلة بسبب السياسات الاقتصادية. وهذه هي البؤرة التي كان يجب أن تتجه اليها هذه الديون التي لم توظف بالشكل الملائم بسبب سوء التخطيط.

أعلم أن كثيراً منا يميلُ الى البحث عن شماعة خارجية يعلق عليها أزمة الديون الخارجية العربية، فهذا ما نتقنه دائماً وما نفعله كلما واجهنا أزمة، أو كلما واجهنا فشلنا واخفاقنا، وفيها سيذهب هذا البعض في الحديث عن انخفاض الأسعار العالمية للمواد الخام، وعن ارتفاع أسعار الفائدة لدرجة أصبح فيها بند خدمة الدين يمثل نصيباً من صافي الديون ويستحوذ على مبالغ كبيرة من النقد الأجنبي، وعن آثار الركود التضخمي في معظم الدول الرأسمالية، التي اندمجنا في نظامها الاقتصادى العالمي، وأصبحنا تابعين له تجارياً وغذائياً ونقدياً وتكنولوجياً فضلاً عن تبعيتنا السياسية له، وعليه فان ما يحدث فيه من تقلبات وأزمات يؤثر تلقائياً في أوضاعنا الاقتصادية.

الا أن كل ما يمكن أن نقوله عن التأثيرات الخارجية في أزمة الديون العربية، هو صحيح جملةً وتفصيلاً، الا أنه لا يمكن أن يصلح مبرراً كافياً لهذه الأزمة، لأنها من صنع أيدينا أولاً وأخيراً، وبأيدينا نحن علاجها اذا أردنا ورغبنا في ذلك، وما حديثنا عن سوء التخطيط وضرورة تفعيل ما هو متوفر من امكانيات ببعيد.

والدول مثل الأفراد تماماً، لا يمكن أن يصلحوا أخطاءهم ما لم يعترفوا بها، ويواجهوا أنفسهم بعيوبهم وبأخطائهم.

اذن دعنا نسأل: لماذا لا نتحدث عن رؤوس الأموال المهربة الى الخارج، وكلنا يعلم أنه في الوقت الذي كانت فيه سياسة الاقتراض تسير على قدم وساق لسد الفجوة التمويلية للمشاريع التنموية. كان الفساد المالي والاداري والسياسي يعم أجهزة الدولة ومؤسساتها في معظم الدول العربية، وقد ترتب على هذا الفساد نهب أجزاء كبيرة من القروض الخارجية وتم تهريبها الى الخارج وايداعها في البنوك الأجنبية، مما أدى الى تراكم الديون وفشل التنمية معاً.

وفي تقرير نشره صندوق النقد الدولي العام الماضي تعرض للأسباب الرئيسية للديون، يعزو أقوى أسباب أزمة الديون الى الفساد وخطط التنمية الفاشلة، مشيراً الى ما ذكرته مؤسسة مورجان مورانتر المالية الأميركية في تقريرها الأخير عن اختفاء مبلغ 189 مليار دولار من 18 بلداً نامياً في سنة واحدة، والعثور على 31 مليار دولار من هذا المبلغ في حسابات سرية في البنوك السويسرية والأميركية.

ويشير التقرير الى أن الفساد ليس وحده وراء سحب هذه المليارات أو التريليونات ان صح التعبير، فحتى اذا تم استخدام هذه القروض بالكامل في اقامة مشروعات ففي غالب الأحيان توجه هذه القروض نحو مشروعات ترفيهية غير انتاجية، مما يتعارض والهدف من تقديم هذه القروض.

ويضرب تقرير مورجان مثلاً بالمعونة التي قدمها الاتحاد الأوروبي لفلسطين، حيث كانت معونته عبارة عن انشاء فيلات فاخرة على الطراز الايطالي، وقد منحت 90% من هذه الفيلات التي بناها الاتحاد لأنصار عرفات العائدين والذين كانوا يقيمون في المنفى معه ويخدمون في ادارته، وأشار التقرير الى أن بريطانيا ساهمت بمليوني جنيه استرليني من هذا المبلغ الذي كان مخصصاً لبناء مساكن اقتصادية للمحتاجين في مناطق غزة والضفة الغربية.

وطالما كنا نتحدث عن المسكوت عنه في ملف الديون العربية فهل سأل أحد نفسه: كم يستنزف السلاح من موارد الدول العربية التي تعاني أصلاً من عجز في ميزان مدفوعاتها، وكم يستنزف من قروضها خصماً على احتياجات مواطنيها الأساسية من غذاء ورعاية صحية وتعليم ... الخ؟

أما الآن فقد ارتفعت نسبة الانفاق على السلاح في العالم العربي حتي وصلت الى 60 مليار دولار مقابل 600 مليون للبحث العلمي.

وبشكل عام فان ما ينفق على تعليم الفرد في العالم العربي سنوياً لا يتعدى 340 دولاراً 130 دولارا في الخليج و200 من باقي الدول العربية بينما نصيبه في اسرائيل 2500 دولار و6500 دولار في الدول الصناعية، ويمكنك أن تقارن ذلك بما ينفق على السلاح والأمن في الوطن العربي.

ان الآثار الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للأزمة الطاحنة التي تسببها هذه الديون الخارجية أكثر من أن تحصي في هذا المقال وأعمق وأكثر تشعباً وتشابكاً الأمر الذي يجعلنا نقرع أجراس الخطر بشدة حتى نحافظ على تماسك ما تبقى من هذه الكيانات العربية التي توشك أن تعصف بها رياح المتغيرات المتلاحقة الايقاع بشكل غير مسبوق. اللهم قد بلغت؟ اللهم فاشهد.

* جامعة الملك عبد العزيز ـ جدة

E-Mail:[email protected]