اقتصاد العالم وآلان جرينسبان

عمر نجا*

TT

مع صدور المؤشرات الاقتصادية الأميركية للربع الأول من هذا العام ولا سيما بيانات البطالة وسوق العمل الأخيرة , تكتمل ملامح المرحلة القادمة والتي لا بد أن تخلص الى ارتفاع أسعار الفائدة على الدولار بمعدل 25 إلى 50 نقطة أساس في غضون الأسابيع القليلة المقبلة . فالبيان الصادر عن اجتماع لجنة السوق المفتوحة عقب اجتماعها الأخير الأسبوع الماضي أشار إلى تحول جذري عند أعضاء اللجنة حيال تقييمهم لموازين المخاطر التي تحيط بسياسة تحقيق النموالاقتصادي من جهة، وبوادر تسلل أسوأ واصعب أنماط التضخم الاقتصادي من جهة أخرى, الذي إذا تمكن من الاقتصاد يكون نتيجة مباشرة للإبقاء على السياسة النقدية القائمة. هذه الإشارة إلى اقتراب موعد رفع أسعار الفائدة ليست جديدة, بل تأتي في سياق سلسلة إشارات أخرى كان أولها شهادة ألن جرينسبان الأخيرة أمام الكونغرس الأميركي, والتي أتت في صلب سياسته ومنهجيته في إدارة توقعات الأسواق المالية التي طالما برع بها وارتكز إليها للحيلولة دون سلبيات المفاجآت، لكن البنك الاحتياطي الفدرالي يفتقر إلى عامل الوقت. فقراره محاصر بين الاستحقاقات الرئاسية التي تحتم عليه عدم الإقدام على أي تغير في السياسة النقدية في الثلاثة اشهر الأخيرة قبل الانتخابات من جهة وتبعات التأخير في اتخاذ الخطوات المناسبة في الوقت المناسب من الجهة الأخرى، علما بأنه لو أقدم على خطوة احترازية كرفع أسعار الفائدة بمعدل يزيد على القدرة الاستيعابية للسوق والاقتصاد بشكل عام يكون بذلك قد أجهز على فرص استمرار الانتعاش الاقتصادي، فهذه الدورة لم تزل في بداياتها وهي بطبيعتها اكثر عرضة للتقلبات والانتكاس من الدورات الاقتصادية الأخرى. لذلك فمن الأرجح أن يأتي رفع أسعار الفائدة على دفعتين متتاليتين بمعدل 25 نقطة أساس في كل دفعة تكون آخرها مع حلول شهر سبتمبر (أيلول) المقبل.

بهذا يكون البنك قد تفاعل مع ضرورة التغير في السياسة النقدية اليوم وتحقق نوعا ما من مدى قوة استمرار هذه الدورة من خلال البيانات الاقتصادية للربع الثاني من العام, أي قبل الإقدام على رفع الأسعار للمرة الثانية. هناك استحقاق من نوع آخر لا يقل أهمية عن الاستحقاق الرئاسي, وهوموعد إنتهاء رئاسة ألان جرينسبان للاحتياطي الفيدرالي (البنك المركزي الاميركي) في 20 يونيو(حزيران). فهذا الاستحقاق ينطوي على أكثر من أمر ذي أهمية حيوية على الصعيدين الاقتصادي الأميركي المحلي والاقتصادي العالمي.

قد يركن الرئيس بوش إلى خيار التمديد لجرينسبان وقد يقبل الأخير به, لكن عاجلا أم أجلا، التغيير في رئاسة البنك قادم سواء أعيد انتخاب بوش أم لا. نعم هناك منهجية للتغيير داخل المؤسسات الأميركية, لكن عندما يتعلق التغيير بألان جرينسبان شخصيا فلا بد من وقفة مطولة.

كائنا من يكن, لن يستطيع خليفة جرينسبان ملء منصب خليفته في الفترة الزمنية المطلوبة لاختزال قرابة 35 عاما من العمل السياسي والخدمة العامة ناهيك عن مخزون الخبرة والمصداقية التي يتسم بها جرينسبان. الحديث عن جرينسبان طويل جدا ليس لأنه عمليا الرجل الثاني في الإدارة الأميركية فحسب بل لأنه كل ذلك رسميا منذ 1987. فهو الذي قاد الاقتصاد الأميركي إلى أطول فترة نموفي تاريخ الولايات المتحدة وكانت له بصمات واضحة على اقتصاد العالم كله في قيادة أهم الأزمات والمحطات الاقتصادية التي عصفت بالعالم منذ ذلك التاريخ وهي كثيرة كانهيار بورصة الأسهم الأميركية عام 1987 و2000ـ2001 , أزمة الدين الروسية, أزمة ديون أميركا الجنوبية, الانهيار الاقتصادي في جنوب شرق آسيا, أزمة المصارف اليابانية، ولادة الصين الصناعية, وحدة أوروبا وولادة اليورو. فهذا الرجل يتمتع بمصداقية وإجلال عند الاقتصاديين والعاملين في الأسواق المالية منقطعي النظير, حتى انداده من وزراء المال ورؤساء البنوك المركزية العالمية الأخرى ينظرون إليه ويتعاملون معه كالأب الروحي لهم, وله عندهم من الاحترام والكلمة المسموعة ما جعل ريغان وكلينتون يحسدونه عليه في اكثر من مناسبة علنية وأن كان حسدهم من باب المداعبة السياسية يومها لكنها حقيقة. وهو الذي قاد شركات عدة هي اليوم عماد الاقتصاد الأميركي وعمل أيضا كمستشار للرئيس فورد وترأس لجان رئاسية استخباراتية وعسكرية واقتصادية عدة قبل أن يرتقي إلى منصبه الحالي إبان ولاية ريغان والذي لم يزل يشغله إلى اليوم.

حياة وإنجازات ألان جرينسبان ليست موضوعنا اليوم, لكن يوم يترجل ألان جرينسبان, عمدا كان ذلك أم اختيارا, فسيكون اليوم الأول في تقويم جديد. هو اليوم الذي سيبحث فيه كل المعنيون عن رمز جديد ويركنون إلى البديل بحكم الأمر الواقع وعلى أساس أفضل الموجود وليس بحكم الكفاءة والقناعة, وهو اليوم الذي تخسر فيه الولايات المتحدة أهم عناصر الثقة والاستقرار أن لم يكن آخرها. فمقابل كل الفضائح المالية كفضيحة «إنرون» والـ«سيفينغز اند لونز» (savings & loans ) وسواها, وما أكثرها من نماذج, ومقابل كل الزلازل المالية التي دكت أميركا في السنوات الأخيرة كانت وحدها الثقة المطلقة بجرينسبان وبقدراته على إدارة الأزمات هي الكفيل الوحيد للخروج السليم من الأزمة. ما يحدث في أميركا يعنينا جميعا وأن كان على صعد وبنسب مختلفة ومتفاوتة. التحول في السياسات النقدية الأميركية ليس شيئا جديدا لكن الخلفية الاقتصادية المستحدثة, نقطة الانطلاق والربط العضوي بين الاقتصاد العالمي والاقتصاد الأميركي، أوروبا الكبرى والصين, هو الجديد على دورة اقتصادية لم تشهد مثلها أميركا منذ اكثر من 15 عاما. والجديد أيضا انه قد يكون هناك احتياطي فيدرالي من دون جرينسبان. مهما كان التغير ونوعه فهو دائما أرض الفرص الخصبة, ويجب أن نعي ونحسن حساب المخاطر ونصف المعركة, 9دارتها وحسن الاستعداد لفرص التغير هو النصف الآخر.

* خبير مصرفي عربي مقيم في الرياض