التحليل المالي بين نشر الغسيل والإعلانات

سعود الأحمد*

TT

الحقيقة أننا نفتقر إلى التحليل المالي المنهجي المفيد (وخصوصاً في تحليلات الصحافة المقروءة)، فكل يوم نطالع صفحات بأكملها على أنها تحليل لأوضاع الأسواق المالية، يعول عليها أن تحلل توجهات سوق الأسهم المحلية، وتغيرات أسعار أسهم بعض القطاعات، وشركات بعينها. لكن كل منا يلاحظ على محتوى هذه التحليلات أنها تتحدث بأسلوب زادت أسعار كذا ونقصت أسعار كذا!. وهو اسلوب يستطيع أي شخص غير متخصص القيام به، فكل الذي يقوم به لا يعدو كونه تغييرا في أسلوب عرض النتائج!. هذه التحليلات لا تفي بحاجة المستثمرين وقراء البيانات المالية، ومن أهمها القوائم المالية السنوية أوالربع سنوية، ولا تؤدي في النهاية إلا إلى التصفيق لتقارير أعضاء مجالس الإدارات، وأخص منهم الذين ينشرون البيانات المالية متضمنة العديد من الخفايا والتلاعبات الفنية التي لا تظهر جلية للقارئ العادي، ببيانات القوائم المالية والإيضاحات المرفقة بها... وهذه من الطبيعي أنها نواح مهنية فنية تحتاج إلى معرفة بالمبادئ والأصول والأعراف المحاسبية، لا يستطيع القارئ العادي اكتشافها، لذلك فهي مهمة المحلل المالي المتخصص. فالتحليل المالي هو عبارة عن «عملية معالجة منظمة للبيانات المتاحة بهدف الحصول على معلومات تستعمل في عملية اتخاذ القرارات وفي تقييم أداء المؤسسات التجارية في الماضي والحاضر وتوقع ما ستكون عليه في المستقبل»، لذلك فالمفترض ان المحلل المالي يعيد عرض المعلومات بصورة اوضح ويفسر مضامينها الفنية التي تحتاج إلى تفسير ويعطي التوضيح الكافي لمدلولاتها وآثارها الآنية والمستقبلية ويقدم للقراء توقعاته المستقبلية في ظل ما يتاح له من معلومات. وأهم ما ينتظره المستثمر والقارئ العادي من المحلل (بصفته خبيرا متخصصا) هو، المعلومات التي يعجز عن استخراجها... يريد منه (بداية) نقداً علمياً ومهنياً للبيانات المالية،وهل تمثل بعدل الوضع المالي للشركة (ام لا)؟!، ثم تحليلاً وتفسيراً للأحداث المالية والظواهر والتغيرات المالية للفترة التي تتحدث عنها البيانات المالية. أما أن يأتي محلل مالي ويملأ صفحة كاملة لصحيفة يومية، على انها تحليل للقوائم المالية لشركة ما، ويضمن تحليلاته رسومات ومنحنيات يعرضها بمختلف الألوان الزاهية، فهذه التحليلات (مجرد) إعادة عرض كمن يفسر الماء بعد الجهد بالماء. وفي بعض الحالات إذا تكلف واجتهد صاحبها في التعبير في عرضه للنتائج قال حققت الشركة كذا... فهذه مجهودات مشكورة، لكنها في الواقع لا تخرج عن محيط دائرة عبارة «زاد ونقص»!. فعلى سبيل المثال، قطاع معظم موجوداته أصول ثابتة مثل شركات العقار والاتصالات يختلف عند تحليله عن المصارف الذي يكون معظم موجوداته نقدية، ولو اردنا (مثلاً) أن نحلل لماذا تتصاعد أرباح شركة الاتصالات، وماذا نتوقع للميل الحدي لأسعار اسهمها بالأسواق، فإن التحليل المالي يجب ألا يقف عند الرأي بما نتوقعه في المستقبل، وانما الواجب أن يؤيد ذلك بأهم الدلائل، وأن يشار في التحليل إلى معقولية نسبة الربح، ويتعرض بشكل خاص للتدفقات النقدية، وأن يتم عرض وتحليل مصادر الأرباح واستخدامات التدفقات النقدية، وهل تنصب في النشاط الرئيسي (التشغيلي) أم بالعمليات الطارئة. لأن الربح من النشاط الرئيسي لشركة الاتصالات يفترض انه مستمر ومتزايد، وبذلك يتوقع للشركة أن تحقق ارباحاً مستقبلية، بعكس لو كان الربح نتيجة عمليات عرضية، فالمفترض انه لا يتكرر في المستبقل... وأن يربط بين ذلك وبين تزايد عدد المستخدمين لخدمات الشركة. ثم ما هي أهم بنود المصاريف؟ فقد يكون أهم المصاريف التي تخفض صافي الربح، هي استهلاكات الأصول الثابتة. ونحن نعلم أن الأصول الثابتة قد تستهلك وهي لا زالت في عمر اقتصادي منتج!... فمثلاً يتوقع أن تكون هناك نسبة كبيرة من اصولنا في أثاث وسيارات، وهذه تستهلك حسب العرف المحاسبي بواقع 25%، أي أن ذلك مبني على فرضية أن عمرها الإنتاجي أربعة اعوام. مع أن الحقيقة أن العمر الاقتصادي للسيارات والأثاث يزيد عن ذلك بكثير، وكلنا يشاهد ويقتني مثل هذه الأصول لمدد قد تزيد عن ضعف هذه المدة. ومعنى ذلك أن هذه الأصول تحقق إيرادا للشركة وهي مقيدة بالدفاتر المحاسبية بقيمة تذكيرية (واحد ريال لكل اصل!).

وهنا يأتي دور المحلل المالي الذي يوضح للقراء ما يخفى عليهم. والذي يستطيع ان يتنبأ بتزايد الأرباح في المستقبل. بسبب توقعه زيادة الإيراد التشغيلي، مع انخفاض في تكاليف التشغيل. لذلك يقال إن أفضل المحللين الماليين، هم المحاسبون القانونيون، ومن لديهم خلفية محاسبية، تمكنهم من قراءة وتقييم أساليب عرض النتائج المالية للفترات المحاسبية.

وختاماً... فإن التحدي الذي يواجه المؤسسات الصحفية، يكمن في أن المؤسسات تعتمد بشكل كبير على إعلانات هذه الشركات المساهمة، ومن الطبيعي أن مجلس إدارة الشركة لن يعلن في صحيفة تتعرض لقوائمه المالية بالنقد والتحليل، وتبين مثالبها (وتنشر غسيل مجالس إداراتها!)... وبذلك تبقى المسؤولية والمهنية والوطنية والاخلاقية واقعة على كاهل أسر التحرير في هذه المؤسسات الصحفية.

* محلل مالي سعودي