تجربة التخصيص في الدول العربية من البيروقراطية إلي البراغماتية

خالد فهد الحارثي*

TT

إذا كانت جدلية القضايا من الناحية الفكرية دلالة نجاح، فالخصخصة بما أثير حولها منذ سنوات عدة كانت خير مثال على ذلك. فإذا كان البعض يراها حلا نموذجيا لحل مشاكل العجز في الموازنات العامة وتحقيق أهداف الانفتاح الاقتصادي فالبعض الأخر يتهمها بإحداث مشاكل جمة على مستوى الاقتصاد الكلي ورفع الأسعار.

وان كانت هذه الجدلية استفحلت في العالم الغربي منذ سنوات فان عدواها انتقلت للجسد العربي، وبدأ يحوم النقاش حول الخصخصة وآثارها. والملفت أن نجاحنا في العالم العربي بالتجادل فاق الغرب بمراحل، وسبب ذلك ليس ثقافتنا بل توارثنا حب الاختلاف للاختلاف ذاته.

وللحكم على أي تجربة أو نظرية يتطلب تحليلها والغرض منها وتقييم نتائجها على المدى المتوسط والبعيد، فالخصخصة فكرة رأسمالية تدعو إلى اختزال دور الدولة الاقتصادي على الرقابة وضبط النظام، وانه كلما تحرر القطاع الخاص زاد النمو الاقتصادي، أي تدعو إلى «لبرلة» السوق. وكان المحفز الرئيسي لفكرة الخصخصة سياسيا أكثر من أن يكون اقتصاديا، حيث كان تنافس الحزبين الحاكمين ببريطانيا في الستينات والسبعينات على أوجّه، فكانت فرص فوز الحزب تزداد بزيادة المساعدات المالية والإعانات الاجتماعية وتوفير الخدمات بكفاءة عالية، وبالتالي تحت هذه الضغوط اضطر الحزب الحاكم إلى زيادة المصروفات على القطاعات الخدمية كالبريد والكهرباء والمياه كي يكسب أصوات انتخابية أكثر. وفي ظل هذه الضغوط قدمت إلى السلطة السيدة مارغريت تاتشر بأواخر السبعينات محملة بأعباء ومصروفات طائلة التي تحتاجها الخدمات العامة فأشار عليها مستشارها الاقتصادي فردريك هايك ببيع قطاعات النشاط الاقتصادي وخصوصا تلك التي تمثل عبئا على الدولة، ونتيجة لذلك ستقل المصروفات الحكومية ويتحول سخط الشارع إلى القطاع الخاص. تجاوبت رئيسة الوزراء مع الفكرة وأنشأت وزارة للخصخصة.

هذه القراءة التاريخية تكشف لنا أن الخصخصة بدأت تحت ضغط آيديولوجي، ولكن نجاح التجربة ببريطانيا أدى إلى تبنيها من قبل البنك الدولي وصندوق النقد، وأضحت إحدى السياسات التي ينادي بها البنك الدولي ويطالب بتطبيقها على الدول النامية، ومنها دول العالم العربي.

على ان اتساع حجم القطاع العام وتفشي الفقر والبطالة وعوامل أخرى، دفعت الحكومات بالدول النامية ومنها دول العالم العربي، إلى التدخل لتحقيق التنمية الاقتصادية عن طريق تخصيص القطاعات الأقل كفاءة وإنتاجية، أضف إلى ذلك إرغام البنك الدولي الدول النامية بتطبيق برنامج الخصخصة. ورغ انتشار سياسة الخصخصة بالعالم العربي إلا أن نتائجها لم تكن ملموسة بالشكل المطلوب، فاندفاع الحكومات لإتباع سياسة الخصخصة لغرض تصحيح هيكلها الاقتصادي والتخلص من المشروعات العامة الخاسرة، لم يكن مدعما بدراسات وآليات تتناسب مع التركيبة الاقتصادية والاجتماعية، فعدم تهيئة المناخ الاقتصادي والاجتماعي قوض النتائج الايجابية للخصخصة، فدول العالم العربي اصطدمت بعوائق جمة لتطبيق الخصخصة، منها عدم توفر سوق مالي متطور يستوعب هذه التحولات، وتخوفها من الاستثمارات الأجنبية وفتح السوق للتنافس، وهذا بسبب عدم ثقتها بكفاءة منتجها ومنافسته في زمن لا يبقى فيه إلا الأفضل، وغياب الأطر القانونية والمؤسسية، وعدم توفر الأمن الوظيفي لدى القطاع الخاص.

ولو تأملنا التجربة الماليزية الناجحة للاحظنا أن الحكومة الماليزية أوجدت بيئة اقتصادية مستقرة بتطوير الأطر القانونية وتبنى سياسة الشفافية والإفصاح في تقديم المعومات المالية، وتبنت سياسة التدرج والانتقائية في إتمام عملية الخصخصة، وكان لهذه السياسة دور كبير في إنجاح التجربة الماليزية.

لنجاح تجربة الخصخصة بعالمنا العربي، يتطلب التعامل معها كوسيلة وليس غاية، وبالتالي هذا يتطلب وضع الشروط والآليات الملائمة ورسم أهداف استراتيجية طويلة المدى تتناسب مع طبيعة المجتمع والكفاءة الاقتصادية المتوفرة، فتطبيق برامج التصحيح الاقتصادي عسفا قاد إلي نتائج وخيمة، حيث ضاعف معدلات الفاقة وأثر في نسبة كبيرة من سكان العالم. الخصخصة يجب أن تعامل كجزء من كل، أي تعامل كجزء من صيرورة الإصلاح الاقتصادي، فالنظرة التكاملية للأنشطة والقطاعات الاقتصادية تعتبر عاملا مهما ومؤثرا في نجاح الخصخصة. وللأسف الشديد ما زالت النظرة في العالم العربي للخصخصة مقتصرة على الربح المادي ومتجاهلة تطوير الجانب الإداري والموارد البشرية، فقبل خصخصة القطاع أو النشاط يجب أن تخصص العقول البشرية، فإذا كانت خصخصة الأنشطة تعني بمفهومها العام تحويل ملكية من القطاع العام إلي خاص فخصخصة العقول تعني تحويل الأساليب والفكر الإداري والاستثماري من بيروقراطية القطاع العام إلى براغماتية القطاع الخاص.

يرى فوكوياما، وهو احد الدعاة الليبراليين، أنه لا يمكن فهم الحياة الاقتصادية بمعزل عن جملة العادات والتقاليد والأعراف والقيم الأخلاقية السائدة، ومن هنا نرى التداخل ما بين المفهومين الاقتصادي والاجتماعي، وأنه لا يمكن نجاح احدهما بمعزل عن الآخر. ولذلك يتطلب منا تحديد مبادئ توجيهية واضحة، حيث أن أهم آثار الخصخصة تعرض العمال لفقدان وظائفهم، وأعرافنا السائدة تحول دون فعل ذلك، فنجاح سياسات الإصلاح الاقتصادي تتطلب منا كسب تأييد شعبي قبل المضي قدما في تنفيذها. لذلك أتصور أن الخصخصة كوسيلة يهدف منها إعادة توزيع الأدوار بين القطاع العام والخاص، وتوسيع قاعدة الملكية، وخلق مناخ الاستثمار المناسب، والتخفيف من الأعباء المالية التي تتحملها الموازنة العامة، تعتبر وسيلة ناجحة ولكن آلية تنفيذها وتدرجها هي مربط الفرس. فإرغام البنك الدولي الدول النامية بتطبيق برنامج الخصخصة أشبهه بإرغام الأب ابنته بالزواج من شخص لا يتناسب مع فكرها وطبيعتها. فنجاح التجربة بدول العالم الأول لا يعني بالضرورة نجاحها بنفس الطريقة بالدول النامية. فلكل مجتمع خصوصيته وثقافته الاجتماعية، وآلية تطبيق الخصخصة تتعارض مع بعض المفاهيم الاجتماعية الحميمة السائدة بمجتمعنا العربي. ونظرا لذلك انصح الأب بالبحث عن الزوج المناسب لابنته أو ترك حرية الاختيار لها على اقل تقدير.

* باحث اقتصادي سعودي ـ لندن [email protected]