عائدات النفط المرتفعة... هل تؤدي إلى تسريع الإصلاحات الاقتصادية الخليجية؟ ( 2)

TT

في اطار العوامل المناخية، فقد تتابع في الفترة القصيرة الماضية حدوث إعصار تلو الآخر في بحر الكاريبي وخليج المكسيك الأمر الذي ساهم في انخفاض الإنتاج الأميركي من هذه المنطقة من جهة، وعدم القدرة على تزويد السوق الأميركي بكامل الكميات النفطية الواردة إليه. ويعاني الانتاج النفطي من خليج المكسيك من عدم القدرة إلى العودة إلى معدلاته الطبيعية بما لا يقل عن نصف مليون برميل يومياً. كما أن هنالك عوامل خاصة بالأسواق نتج عنها تزايد عدد المضاربين في سوق السلع الرئيسية بما في ذلك النفط، نتيجة لانخفاض أسعار الأسهم المالية العالمية، والفائدة العالية.

محصلة كل هذا الاستعراض الموجز لما حدث في سوق النفط العالمية لهذا العام هي تبيان حقيقة أنه بالرغم من معدلات النمو في الطلب العالمي على النفط نتيجة للانتعاش الاقتصادي العالمي، إلا أنه لم يكن هناك نقص حقيقي في الكميات المعروضة منه، وما حالة الارتفاع غير المتوقع في أسعار النفط إلا لتعكس في جزء كبير منها تأثير عوامل عدم الاستقرار السياسي والمناخي والمضاربات في سوق النفط العالمية. إن تسيد التوقع باستمرار أسعار النفط عند مستوياتها الحالية بل والقول بأنها ستقترب من مائة دولار للبرميل خلال الأعوام القليلة المقبلة، يذكرنا بما كانت عليه التوقعات في آواخر السبعينات وأوائل الثمانينات. إذ أن معظم التوقعات وقتها أجمعت على أن أسعار النفط ستتجاوز الـمائة دولار للبرميل بنهاية الثمانينات، وأن هنالك أزمة حقيقية تعيشها سوق النفط العالمية نظراً لعدم قدرة معدلات النمو في العرض العالمي للنفط من مجاراة النمو الكبير في الطلب العالمي عليه.

والسؤال المطروح للتذكير: هل تحققت هذه التنبؤات؟ ولماذا لم تتحقق؟ والجواب بكل بساطة يتمثل في المبادئ الأولية لعلم الاقتصاد، والتي تحدد عكسية العلاقة بين أسعار السلعة والطلب عليها والعلاقة الطردية بين هذه الأسعار والمعروض منها مع الأخذ في الاعتبار المرونات التي تؤثر في درجة الاستجابة في كل من الأمد القصير والأمد الطويل.

ومن دون الدخول في التحليل العلمي لهذه العلاقات، فإن ارتفاع أسعار النفط الذي حدث في السبعينات وأوائل الثمانينات لم يؤد في الأمد القصير إلى تغييرات كبيرة في جانبي العرض والطلب العالميين على النفط في الأمد القصير لتدني مرونتيهما، إلا أن الأمد الأطول ـ ومع استمرار الأسعار المرتفعة ـ أظهر تغيرات هيكلية طرأت على الطلب العالمي على البترول فأدت إلى انخفاضه بما مقداره ثمانية ملايين برميل يومياً خلال النصف الأول من الثمانينات، وذلك نتيجة إجراءات ترشيد الاستهلاك النفطي الطوعي والاختياري، وتحسين كفاءة استخدام الطاقة، وزيادة استخدام بدائل الطاقة الأخرى مثل الفحم والطاقة النووية في توليد الطاقة الكهربائية على حساب النفط... وهي سياسات صارمة اتبعتها الدول الصناعية من خلال التجمع الذي أسسته بعد أزمة عام 1973 والمعروف بوكالة الطاقة الدولية IEA).

أما الوضع حالياً فإن هذه الدول الصناعية ما زالت تعامل النفط بعدم الحب، تراكمت آثاره عبر السنوات الماضية، وما زالت المعدلات الضريبية لديها تتعسف ضد المنتجات النفطية، وهي في ظل الأسعار المرتفعة حالياً تحاول فرض مزيد من هذه الضرائب، وتتخذ مزيدا من السياسات والإجراءات الرامية إلى خفض استهلاكها من النفط، وتذهب بعض الدول الصناعية إلى أبعد من هذا بأن تحرض الدول النامية وبالذات الأكثر استهلاكاً للنفط، على أن تعمل على التقليل من اعتمادها على النفط المستورد وبالذات مناطق عدم الاستقرار مثل منطقتنا حسب زعمها، وتبني إجراءات وسياسات تحقق هذا الهدف. وهي ـ أي الدول الصناعية ـ تعزف تارة على وتر ارتفاع فاتورة واردات الدول النامية وتأثر نموها الاقتصادي الأمر الذي يؤثر على النمو الاقتصادي العالمي، وتارة أخرى تركز على مزايا تخفيض استهلاك النفط في التقليل من الانبعاثات البيئية الضارة في هذه الدول، متجاهلة الآثار البيئية الأكثر والأخطر لكل من الفحم والطاقة النووية.

أما التغيرات الهيكلية التي طرأت على العرض العالمي للنفط في السبعينات وأوائل الثمانينات، فإن أسعار النفط المرتفعة أدت إلى تبرير التوسع الكبير في الاستثمار والبحث عن حقول نفطية جديدة بما في ذلك المناطق مرتفعة التكاليف، وتم تطوير التقنية التي تتعامل مع مثل هذه المناطق الوعرة في أعماق بحر الشمال ومناطق ألآسكا وسيبيريا وغيرها. وساهم التطور التقني تدريجياً في انخفاض تكاليف الإنتاج من هذه المناطق، وأصبحت مجدية اقتصادياً حتى في ظل الانخفاض الذي لحق بأسعار النفط ابتداءً من النصف الثاني من الثمانينات، وزاد عدد الدول المنتجة في العالم إلى ثمانين دولة بعد أن كانت تُعد على الأصابع. وقد أدت كل هذه التغيرات الهيكلية في كل من العرض والطلب العالميين على النفط والتي حدثت في السبعينات وأوائل الثمانينات، إلى انحسار نصيب انتاج دول الأوبك في سوق النفط العالمية ـ نظراً لأنها كانت وما زالت تقوم بدور المنتج المرن ـ وانخفض الطلب العالمي على نفطها بحوالي 14 مليون برميل يومياً بحلول عام 1986، الأمر الذي دفعها إلى تعطيل العمل بسياسات تحديد الإنتاج والأسعار بحثاً عن نصيبها الإنتاجي في السوق العالمية، وانخفضت أسعار النفط إلى أقل من عشرة دولارات للبرميل، ما لبثت أن تحسنت تدريجيًا لتقترب من عشرين دولارا للبرميل بنهاية الثمانينات وليس مائة دولار للبرميل كما كان متوقعا. لم نشأ من خلال هذا الاستعراض التاريخي إلا التدليل على أن سوق النفط العالمية مثلها مثل سوق أية سلعة أخرى تؤثر فيها مستويات الأسعار على كل من العرض والطلب وإن اختلفت درجة الاستجابة (المرونة) حسب طبيعة كل سلعة.

ومن يعتقد أن الأسعار المرتفعة للنفط الحالية قد تحققت لتبقى بل وتتجاوزها، وأن دول الخليج ستشهد من الآن وصاعداً عائدات نفطية متزايدة، لم يدرس التاريخ جيداً، ونسي أن أية سلعة إنما تخضع لمبدأ الدورات الاقتصادية (Cycles)، وأن استمرار الأسعار عند مستوى معين ولفترة من الزمن يعجل من حدوث دورة جديدة.. فلا الأسعار المرتفعة تظل مرتفعة ولا المنخفضة تظل كذلك.

وأسعار النفط الحالية مرشحة للاستمرار عند مستوياتها الحالية إلى نهاية الربع الأول من العام المقبل، أي بعد انتهاء موسم الشتاء، ما تلبث أن تنخفض وإن كانت ستستقر هذه المرة عند مستويات 30 ـ 35 دولارا للبرميل لفترة من الزمن حتى تستقر الأوضاع السياسية، وحتى تصل الأسواق طاقة إنتاجية نفطية إضافية، وحتى تبدأ تقلبات النمو الاقتصادي العالمي لتحقق معدلات أقل من المستويات الحالية المرتفعة (5% لعام 2004، 4.3% للعام المقبل 2005، حسب تقديرات صندوق النقد الدولي).

لذا فلا يمكن الركون إلى أن عائدات النفط الخليجية المتزايدة هي الحل المقبل للمشكلات الاقتصادية التي تعيشها المنطقة، من دون الحاجة إلى الاستمرار في الإصلاحات الاقتصادية.

* مستشار اقتصادي سعودي [email protected]