الدول الفقيرة قد تفقد 27 مليون وظيفة نتيجة إلغاء نظام الحصص العالمي في أسواق الملبوسات والنسيج

سوق هائل يصل حجمه إلى نصف تريليون دولار والصين والهند تستعدان لاقتناص المكاسب

TT

في الأول من يناير (كانون الثاني) من العام المقبل ستلغي منظمة التجارة العالمية نظام الحصص الدولي الذي ينظم تجارة الملابس والمنسوجات. وبالمحصلة فإن هذا الأمر سينهي نظام الحصص المعمول به منذ أربعين عاما بالنسبة للصادرات النسيجية للدول الصناعية، حيث أنه سيتوقف بعد عام 2004 بموجب اتفاق دولي تم التوصل إليه قبل عشر سنوات. لكن العديد من الدول النامية والفقيرة التي بنت صناعتها حول قطاع النسيج تشعر بالقلق مع اقتراب الأول من يناير (كانون الثاني) موعد إلغاء نظام الحصص في استيراد المنسوجات في الدول الغنية، خشية من تدفق السلع الصينية، فالدول التي استطاعت حتى الآن استخدام نظام الحصص لتصريف منتجاتها في أسواق البلدان الأوروبية، قد ترى نفسها مستبعدة من قبل الصين التي تعد المصدر الأول في العالم في قطاع الملبوسات. وهذا الاتجاه الكاسح نحو تحرير التجارة عالميا ستكون له مضاعفات كارثية لأفقر الدول، وعلى ملايين البشر خصوصا النساء، ومن بداية العام المقبل فإن اتفاقية النسيج المتعددة ستلغى من الوجود وسيحل محلها قانون جديد.

* البقاء للأقوى

* وفي سياق هذا التوجه لتحرير الاقتصاد، فإنه من المتوقع في إطار السينوريوهات التشاؤمية أن يفقد ملايين العمال وظائفهم، بينما يجبر ملايين آخرون على العمل تحت ظروف أشبه ما تكون بالعبودية في صناعة معروفة أصلا بظروفها القاسية. وبحسب دراسة نشرتها منظمة «كريستيان ايد» في بريطانيا، فإن حوالي 27 مليون شخص، غالبيتهم في الدول النامية والفقيرة، سيفقدون وظائفهم في صناعة الملابس والمنسوجات في بلدان تعاني أصلا من مشكلات البطالة المتفاقمة. وقد حذر صندوق النقد الدولي أخيرا، من أن ربع صادرات بنغلاديش مثلا، التي تصل إلى 1.7 مليار دولار، سيفقد، كما ستفقد حوالي 2.3 مليون وظيفة.

وحتى الآن فإن نظام الحصص تم تطبيقه وحصره على صادرات الملابس والنسيج المتجهة إلى الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، فجميع الإجراءات التي اتخذت في هذا الإطار جاءت من حماية الصناعات المحلية أمام الصناعات المقبلة من دول شرق آسيا مثل كوريا الجنوبية، وتايوان وهونغ كونغ، وكان من النتائج غير المقصودة لنظام الحصص أنه سمح لبعض الدول الفقيرة بالإفادة من عائد من أسواق الدول المتطورة، فنظام الذي الحصص يحدد صادرات المنتجين الكبار مثل الصين والهند، يشكل أيضا ضمانة للآخرين بدخول السوق، فالمستوردون مرغمون في الواقع على الاستيراد من بلدان يشملها نظام الحصص، وهكذا تقوم الدول الغنية بإرسال أنسجتها إلى تونس وجزر موريشيوس أو جمهورية الدومينيكان لتصنيعها قبل إعادة تصديرها إلى الاتحاد الأوروبي أو الولايات المتحدة. وانتهاء هذا المدخول يؤثر خاصة في البلدان التي بنت صناعتها على قطاع النسيج.

* الرابحون الجدد

* ويرى العديد من الخبراء في إطار منظمة التجارة العالمية، أن «اللاعبين الجدد» مثل الصين والهند، سيكونون أكبر الرابحين من انهاء العمل بنظام الحصص المفروضة على واردات النسيج، بينما ستكون البلدان الأكثر فقرا الضحية الأولى لهذا الإجراء. وبحسب دراسة نشرتها منظمة التجارة العالمية في أغسطس (آب) الماضي، فإن حصة الملبوسات الصينية من إجمالي واردات هذه السلع في الولايات المتحدة ستشكل 50% بعد زوال نظام الحصص، مقابل 17% حاليا. وحصة المكسيك ستتراجع من 10% إلى 3%. وفي ما يتعلق بالاتحاد الأوروبي فإن حصة الملبوسات الصينية في واردات الملبوسات ستزداد من 18% إلى 29%، فيما حصة تركيا ستنخفض من 9% إلى 6%. وجدير بالذكر أن صادرات الصين من الملبوسات وصلت في العام الماضي لوحده إلى نحو 53 مليار دولار. أما الهند فقد تستفيد أيضا لكن بدرجة أقل من الصين، ووفقا للإحصائيات التي أوردتها منظمة التجارة العالمية، فمن المتوقع أن ترتفع حصة نيودلهي من تجارة الملابس والمنسوجات من 4% حاليا لتبلغ 15% خلال السنوات القليلة المقبلة. وفي السياق ذاته نشرت الحكومة الهندية أخيرا ورقة عمل توقعت فيها أن تصل حصتها إلى 8% بحلول عام 2010، وهو ما يعني أن الصادرات الهندية سترتفع من 15 مليار حاليا لتصل إلى نحو 50 مليار دولار بحدود عام 2010، بينما سينمو حجم قطاع النسيج والملابس من 37 مليار في الوقت الراهن ليبلغ 85 مليار دولار، مع توفير 12 مليون فرصة عمل جديدة لنفس الفترة المتوقعة.

الخاسرون في إطار نظام تحرير التجارة الجديد سيكونون بدون شك الدول وعمالها الذين كانوا محميين حتى الآن من قبل نظام الحصص العالمي. وباختصار، فإن دولا مثل بنغلاديش، وكمبوديا ونيبال، التي تعد من أفقر دول العالم، ستتعرض لضربات قاسية في هذا المجال، وفي هذا الإطار كانت منظمة العمل الدولية قد حذرت من أن «الصدمة الاقتصادية والاجتماعية ستكون كبيرة جدا في البلدان الأكثر فقرا، التي لا تملك القدرة على النهوض مثل الولايات المتحدة أو الاتحاد الأوروبي». وبالنسبة للدول العربية، على سبيل المثال، فإن إلغاء حصص دخول المنتجات النسيجية إلى الولايات المتحدة مع بداية 2005، قد يسفر عن منح مزايا هائلة للمنتجات الآسيوية، حيث تكلفة التشغيل متدنية، على حساب الصادرات المصرية التي تصل قيمتها إلى أكثر من 700 مليون دولار، وتواجه رسوما جمركية تتراوح بين 10 و39%، فانتهاء نظام الحصص جعل مصر تعيد النظر في موقفها الرافض حتى الآن للتوقيع على اتفاق تجاري وصناعي مع إسرائيل، باعتبار أن الأجواء السياسية لم تكن ملائمة. أما المغرب الذي تصدر بنحو 2.3 مليار دولار من النسيج والملبوسات سنويا، فإنه ستواجه بدون شك منافسة صينية شرسة، خصوصا في أسواق دول الاتحاد الأوروبي.

* صناعة ضخمة

* وفي الحقيقة فإن قطاعات الملابس والنسيج، هي صناعة ضخمة وتشتمل على العديد من الحقائق والوقائع التي تثير الاهتمام، وهي تبدأ بالنسيج والأقمشة، سواء كان ذلك يتعلق بإنتاج المواد مثل النايلون والرايون أو المادة الأكثر تقليدية، القطن، وهي مواد تتحرك من التصميم، ومن ثم نحو التصنيع وصولا إلى محلات بيع التجزئة أو محلات الأزياء المعروفة. واليوم صناعة النسيج والأقمشة العالمية تمثل حوالي 6% من الصادرات العالمية، حيث تصل قيمتها حاليا إلى 495 مليار دولار، بحسب إحصائيات منظمة التجارة العالمية، وتوظف أكثر من 40 مليون شخص في نحو 200 بلد على مستوى العالم. ونمو هذا القطاع يعتبر مذهلا، خصوصا في الدول النامية، حيث صعد حجم التجارة في هذا المجال من 6 مليارات دولار عام 1962 دولار ليصل إلى نحو 342 مليار دولار عام 2001. وتمثل صادرات الدول النامية نصف صناعة النسيج والملبوسات وحوالي 3 أرباع الملابس وفقا للأرقام التي أوردتها دراسة منظمة «كريستيان ايد» في بريطانيا هذا الشهر.

وأهمية قطاعات النسيج والملابس والأقمشة في الدول النامية، تعتبر جديدة نسبيا، فحتى عام 1960 كانت الدول الصناعية، خصوصا بريطانيا، هم اللاعبون الأساسيون في هذا المجال، ولكن خلال الستينات فإن هذه السيطرة تم تحديها بقوة من قبل الاقتصادات الصاعدة، ومثل هذا «الهجوم» على الدول الصناعية قاد إلى بدايات ظهور نظام الحصص. ونظام الحصص يعود إلى عام 1961 عندما تفاوضت الدول الغنية بشأن فتح حدودها تدريجيا أمام المنتجات النسيجية للدول الفقيرة بغية الحفاظ على صناعتها المهددة بالأجور المتدنية في البلدان النامية. إن الدول الصناعية آنذاك، خصوصا الولايات المتحدة وأوروبا، أصبحت قلقة من سرعة إنتاج دول مثل هونغ كونغ وتايوان والصين والهند وكوريا الجنوبية، أو ما يصطلح على تسميته بـ«المنتجون القدامى لآسيا»، حيث أن هذه الصناعات التي تعتمد على العمالة البشرية المكثفة، كانت تتجه لصالح دول آسيا نتيجة رخص أجور الأيدي العاملة، إضافة إلى القوانين البيئية والاقتصادية غير المتشددة مقارنة بالدول الصناعية المتطورة.

* مجموعات ضغط

* وهذه الحصص التي تحدد نوعية الواردات عند مستوى معين، تجسدت في اتفاق الألياف المتعددة الذي دخل حيز التنفيذ في 1974 تحت رعاية «الاتفاقية العامة للتعرفات الجمركية والتجارة» (الغات) السابقة لمنظمة التجارة العالمية. وأصبح يتم من خلال ذلك النظام التفاوض على هذه الحصص مع جميع الدول التي تصدر منتجاتها إلى الدول الصناعية. لكن المفارقة أن ذلك النظام الذي تم إقراره لحماية الدول الصناعية، جاء بنتائج مغايرة، ذلك أن النظام المفترض أن يساعد أوروبا وأميركا، بدأ في الحقيقة يساعد الدول النامية والفقيرة، حيث بدأت أسواق الدول الصناعية تتوسع بطريقة أكبر من قدرة المنتجين المحليين على تغطية احتياجاتها، مما خلق نقصا تم تعويضه من صادرات الدول الفقيرة والنامية.

بالتالي فإن منتجي آسيا القدامى وصلوا في حصصهم إلى الذروة مما منح بدوره فرصة ذهبية لـ«المنتجين الجدد» زيادة صادراتهم وتغطية العجز في السوق، الأمر الذي سمح لدول مثل كمبوديا وبغلاديش ونيبال وبعض الدول الأخرى ومن ضمنها المغرب ومصر، بالاستفادة من نظام الحصص وانتعاش صناعاتها في قطاعات النسيج والملابس. وفي الواقع أن نظام الحصص العالمي فعل فعله بشكل جيد لمدة 20 عاما أو أكثر، حتى بدأ منتجو آسيا القدامى بانتقاد هذا النظام، لأنه يفرض قيودا على التجارة. ومن أجل زيادة صادراتها الخارجية ومضاعفة عمليات التوظيف، أقدمت تلك الدول الآسيوية على المطالبة علنا وبشكل قوي بإلغاء نظام الحصص، وانضمت إلى الحملة بعض الدول الأخرى التي يمكن أن تستفيد من تحرير التجارة العالمية للنسيج والملابس.

ولم يقتصر الأمر على الدول، بل امتد إلى سلسلة شركات البيع بالتجزئة، التي بدأت تضغط هي الأخرى من أجل إلغاء نظام الحصص، بحجة أنه معقد ويجعلها تستورد حصصها من مناطق مختلفة في العالم. وبدأت هذه الشركات تشكل مجموعات ضغط من أجل وضع بند تحرير تجارة النسيج والملبوسات على رأس أولويات الأجندة الاقتصادية العالمية. ومثل هذه التحركات كانت موجودة بقوة في إطار محادثات جولة الأورغواي حول إصلاحات نظام التعريفات وقضايا التجارة الأخرى، التي كانت تتم تحت مظلة الاتفاقية العامة للتجارة والتعريفات (الغات) منذ عام 1986.

وبعد تطور اتفاقية «الغات» إلى منظمة التجارة العالمية (WTO) في عام 1994، فإن الضغوط من الشركات الكبرى التي ترافقت مع ضغوط المنتجين القدامى والجدد، بدأت تعطي زخما كبيرا، حيث بدأت فلسفة التحرير تحت أي ثمن تتجذر في إطار منظمة التجارة العالمية، بالتالي وجدت المجموعات الضاغطة لتحرير سوق الملابس والنسيج بابا مفتوحا لاقتراحاتها، لذلك استبدل في عام 1994 بـ«اتفاقية المنسوجات والملبوسات» التي وضعت نظاما انتقاليا لعشر سنوات للوصول إلى الإلغاء التام لنظام الحصص الذي فرضته كندا والولايات المتحدة والنرويج والاتحاد الأوروبي، في الأول من يناير (كانون الثاني) عام 2005 .