نمو سكان.. وضمور فرص

المسؤولية الاجتماعية للشركات والمؤسسات

TT

أمام التنامي السكاني في العالم العربي وأمام تقلص فرص العمل والتدريب والدراسة في البلدان العربية وفي الغرب لا بد من البحث عن مخرج يبعث الأمل في النفوس ويوقظ في الكفاءات روح العزيمة، ويسهم في تطوير اقتصادات المنطقة بما يعينها على تحقيق إيجابيات اجتماعية وسياسية واقتصادية، ويقلل من الضغوط المحلية والخارجية، ويفتح أمام الشباب الفرص للعمل وتحسين معيشتهم.

وإذا كانت الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية سيئة في كثير من الدول العربية فمن المتوقع أن تزداد سوءاً أمام عولمة تزيد القوي قوة والضعيف ضعفاً، وتفتح الأسواق أمام منتجات أرخص وربما أفضل ويد عاملة أعلى مهارة وربما أقل أجراً، فأين المكان الذي يمكن أن يجد الكثير من العاطلين فيه فرص عمل لهم، وإذا كانت البرامج الاجتماعية والاقتصادية لكل دولة لا تستطيع استيعابهم ولا يجدون سبيلاً إلى الهجرة أمام الأسوار الأمنية التي تقام في وجوههم يوماً بعد يوم، فماذا سيصنعون في حاضرهم، وكيف سيؤمنون الاحتياجات الأساسية لمستقبلهم.

المشكلة: المؤشرات والأبعاد فـي ظل هذه الظروف، يحتاج أولو البصيرة في عالمنا العربي إلى التعرف على المشكلات ووضعها في إطارها الصحيح حتى يتم بالتحديد الدقيق والتشخيص السليم معرفة الأسباب التي أدت إليها والحلول التي تساعد على التغلب عليها، وإلا بقينا نتحدث عن المشكلة بدون معرفتها ونجرب حلولاً قد لا تكون هي الحلول أو هي الحلول ولكن لمشكلات أخرى.

والمؤشرات في العادة تسهم في تحديد جوانب من المعاناة، ومن بين المؤشرات أن في العالم العربي أكثر من ثلاثين مليون شاب يبحثون عن فرص عمل وسوف يصل هذا الرقم إلى مائة مليون بحلول عام 2020م، كما أن الاتحاد الأوروبي يسعى إلى أن تكون نسبة العاملين في الفئة العمرية من 18 إلى 56 سنة إلى إجمالي السكان (70%) بنهاية العقد الحالي، بينما لا تصل النسبة في العالم العربي (40 %) من مجموع السكان، يضاف إلى ذلك أن نسبة الشباب في العالم العربي تتجاوز (53%) من إجمالي السكان.

وإذا كانت هذه المقاييس تبدو مقلقة فإنها للذين ينظرون إلى الأمور بإيجابية وبروح بناءة باذلة مؤشرات تساعد في حل المشكلة وتشكل تحدياً يقبلون عليه مطمئنين إلى أن الحياة إنما هي ميدان فيه المشكلات ولكنه يسعف بالحلول وفيه السلبيات ولكنه يكتنز بالإيجابيات.

الشباب والفتيات إذا كان هؤلاء يشكلون أكثر من (53%) من سكان العالم العربي وإذا كان قطاع عريض منهم لا يعملون ولا يسهمون في بناء أمتهم وإثبات ذاتهم وتحقيق دخول يعيشون بها، فكيف يفكرون وكيف يتصرفون، وكيف ينامون ويستيقظون، وكيف يحلمون ويحققون، ثم كيف يقارنون بين حياتهم وحياة غيرهم قريبين أو بعيدين، إنها معضلة تستحق التأمل والتفكير.

وانتظار فرج يأتي من حيث لا ندري إنما هو من قبيل الرجم بالغيب، بل لا بد من خطط وبرامج يستفتى فيها هؤلاء الشباب والفتيات ويكونون طرفاً في النظر إلى المشكلة والبحث فيها والخروج منها، وإلا فإن الأمور سوف تتفاقم حتى تخرج عن السيطرة وهي الآن ليست بعيدة عن ذلك، متى أصبح هؤلاء عرضة لفراغ قاتل وفقر يفغر فاه، وتباين في الدخول تفقد الواحد منهم القدرة على القرار أو التفكير وتدفع به إلى أحضان الجريمة أو المخدرات أو الإرهاب فإن تلك بداية يصعب أن توضع لها نهاية.

المسؤولية الاجتماعية للشركات والمؤسسات كلــما كانت الشركة أو المؤسسة ذات قيادة جيدة وذات إنجازات رائدة فإنها تسهم بشكل مباشر وغير مباشر في النهوض ببيئتها والارتقاء بمجتمعها في مجالات عديدة ومن ذلك نشر ثقافة الأداء الرفيع والعناية بحسن اختيار الموارد والكفاءات وحسن تدريبها وإعدادها وتحفيزها وإطلاقها في عالم الإبداع والإنجاز، كما أن من هذه الشركات والمؤسسات ما يسهم في التنمية المحلية والإقليمية ببناء المدارس ومعاهد التدريب أو بتبني برامج ثقافية أو اجتماعية أو إدارية ذات مردود إيجابي على المجتمع.

لكــن المشكلة التي تواجه العالم العربي اليوم تتجاوز حدود المبادرات التقليدية وتتطلب من القادرين على فهم حجم المشكلة وما يترتب عليها القيام بمبادرات ذات نوعية تعتمد على الإبداع والتفوق في الأفكار وفي التطبيق تبدأ من التعرف على المشكلة التي تحيق بالعالم العربي اليوم وضرورة البحث عن حلول جذرية. والحديــث عن مبادرات غير تقليدية أو مبادرات تقوم على الإبداع لا يعني أبداً أنها مستحدثة غير مسبوقة بل هي مبادرات سبقنا إليها آخرون وتفوقوا فيها وأبدعوا في التعامل معها وأصبحت سبلاً مطروقة ولكنها تحتاج إلى نظر وتأمل وحرص على تحديثها أو تكييفها لتتلاءم مع البيئة التي نعمل فيها.

ما يمكن أن تسهم به الشركات والمؤسسات الشـركات ترسم أهدافها وتضع استراتيجياتها للمدى القصير والطويل آخذة في الحسبان المتغيرات والتوقعات والمخاطر وتحسب لكل منها تأثيره على نشاطها وعلى نتائجها، ولذلك حين يأتي النجاح لا يأتي إلا على أساس من الأخذ بأسبابه وفق التجربة الإنسانية في عالم إدارة الأفراد وقيادة الشركات. وحين تضع الشركات والمؤسسات هذا النجاح في خدمة الشباب والفتيات الباحثين عن فرص عمل فإنها تحقق إنجازاً كبيراً بحسب ما توفره من إمكانات وما تطرحه من برامج، والمقصود هنا أن تنشئ كل شركة وكل مؤسسة وحدة يكون هدفها تحقيق فرص عمل في كل عام لشريحة من الشباب والفتيات وأن تعمل في ذلك وفق برنامج دقيق واضح المعالم يكون من بين الأهداف الاستراتيجية للشركة أو المؤسسة بحيث يحاسب القياديون عليه ويكافأون أيضاً عليه، ويصبح واحداً من الأهداف التي تقاس من خلاله إنجازاتها على أساس دوري شهرياً وفصلياً وسنوياً.

حين يتحول الأمر من نشاط هامشي تطوعي إلى عمل في إطار المسؤولية الاجتماعية للشركة أو المؤسسة يصبح له طعم آخر لأن النجاح فيه محسوب مسبقاً والفشل أيضاً وتعلن النتائج فيه كما تعلن النتائج السنوية للشركة وينظر المجتمع للشركة أو المؤسسة إما أنها صاحبة مبادرات اجتماعية أو أنها غير مبالية وغير مسؤولة عن بيئتها ومجتمعها، عندها يمكن أن نتحدث عن بداية تشكل أمل وعن بداية صناعة مستقبل نراه يصاغ في إطار مبادرات جديدة ومنافسات مبدعة في مجال هو من أهم المجالات الحيوية في حياة المؤسسات والشركات.

وقد تكون الأمور أكثر يسراً لو أن كل شركة أو مؤسسة بدأت بالتركيز على المجالات ذات الصلة بنشاطها بحيث تسعى إلى إيجاد فرص عمل للشباب والفتيات في نفس المجال الذي تعمل فيه، فإن كانت مؤسسة بيع تجزئة أو فندقية أو صناعية أو خدمية أوجدت فرصاً في هذا المجال، وإن كانت مؤسسات مالية أو بنوك حرصت على تقديم تسهيلات مالية للمبتدئين من أصحاب المشاريع الصغيرة أو متناهية الصغر والتي تشكل أكثر من 70 % من عدد المؤسسات الموجودة في كثير من مكونات الاقتصاد الدولية، وإن كانت مؤسسات تعليمية أو تدريبية اهتمت بتقديم تسهيلات وضمانات تعمل على أن يصبح المتدرب ذو كفاءة وتميز وأن يحصل على فرصة عمل يطبق من خلالها ما تم تعليمه عليه وهكذا..، بحيث يسهل عليها أن تتعامل مع نمط من الأعمال تحسنه وتعرف مداخله ومخارجه، وقد يستعان بمؤسسات محلية أو دولية ذات نشاط بارز في تدريب وإعداد القوى العاملة في مجالات مختلفة لتحقيق الأهداف المأمولة.

البناء على التجارب الناجحة لا يكفي أن يكون العمل في هذا المشروع هامشياً خاضعاً للمزاج بل لا بد من أن يكون جزءاً لا يتجزأ من نشاط الشركة أو المؤسسة الرئيسي ولا يكفي أيضاً أن يكون نشاطاً عادياً بل لا بد من أن يكون نشاطاً متفوقاً خاضعاً لتجربة شديدة الثراء واسعة الغنى على أساس محلي ودولي، كذلك وأن يكون لها توثيق داخل كل شركة ومؤسسة بحيث تصبح قطعة من حياة الشركة ورمزاً من رموز تفوقها ومفردة من مفردات إنجازاتها ونجاحاتها.

ولو أن كل شركة أو مؤسسة طرحت كل سنة ضمن ميزانيتها التقديرية العدد المتوقع توفيره من فرص العمل للشباب والفتيات في السنة القادمة بحيث يكون نسبة مئوية من عدد العاملين فيها وتبدأ من (5%) مثلاً وقد ترتفع في الشركات والمؤسسات ذات الإمكانيات القيادية والإدارية المتفوقة لتصبح (100%) فإن الحديث عن حل كلي أو جزئي للمشكلة يصبح قابلاً للتداول.

لن تكلف مؤسسة أو شركة ميزانيتها شيئاً من هذا العمل بل إنه سوف يسترد عبر إقراض الشباب والفتيات ولكن العون المطلوب أن يكون هناك إتقان ودقة في حسن اختيار المتدربين وحسن اختيار برامج التدريب ومناهجها وحسن اختيار المدربين ثم في أن تكون فرص العمل هي الهدف من هذه البرامج وليس الإحلال، ذلك أن مدى الإحلال محدود جداً ولا يحقق أي إضافة ذات قيمة للمجتمع في ظل أبعاد المشكلة المطروحة في بداية المقال، كما أن إيجاد فرص العمل هو المقياس الذي يقاس به أداء القيادات السياسية في الدول المتقدمة حيث ينظر إلى الفرص التي تم توفيرها خلال الفترة الرئاسية للرئيس أو للحزب، وحيث أن هذا المقياس غير متوفر في كثير من الدول العربية فإن القطاع الخاص يمكن أن يسهم بدور كبير وبالتعاون مع الأجهزة الحكومية والاستفادة من قدراتها وإمكانياتها وتقديم المرونة والتسهيلات الموجودة لدى القطاع الخاص في توفير ورسم مقاييسه، ويصبح تمويل إعداد الشباب لفرص العمل قروضاً تسدد حين يحقق هؤلاء دخولهم من أعمالهم أو ظائفهم.

إن الجهد الذي يقوم به المسؤولون في الشركة والمتابعة في البحث عن البرامج وإعدادها وتقويم نجاح هذه البرامج ونجاح القائمين عليها، هو سر نجاح هذه الإضافة التي يمكن للقطاع الخاص أن يقوم بها وأن يحقق بها إضافة نوعية يجني المجتمع ثمارها وينال الشباب والفتيات نتائجها، وتنخفض بها البطالة ويتعزز الدخل العام، ويصبح الاقتصاد أكثر متانة وقوة، ذلك أن كل ريال أو جنيه أو دينار ينفق في الدورة الاقتصادية سوف ينتج عاملاً مضاعفاً يختلف باختلاف الاقتصاد الوطني ومقاييسه ولكنه لا يقل في الغالب عن خمسة، أي أن كل إنفاق يحقق خمسة أمثاله من الواقع.

في شـركة عبد اللطيف جميل كانت هنالك تجربة لا تزال في بداياتها ولكنها تشكل نقلة نوعية في مجال إيجاد فرص العمل، حيث سعت الشركة حثيثاً إلى تدريب الشباب وإلحاقهم بالشركة عبر سياسة إحلال وجدت بعد ذلك أنها لا تكفي، وكانت لها تجربة في الابتعاث وإعانة الشباب ولكن الشعور بشيء من النجاح تحقق حين سعت الشركة إلى إنشاء إدارة مستقلة أطلقت عليها "إدارة برامج عبد اللطيف جميل لخدمة المجتمع" وأسندت إدارتها إلى أحد الشباب واختار هو فريقاً من الشباب والفتيات ثم كان هناك فريق استشاري من رجال الاختصاص في التدريب والقياس والتقويم لإجراء مقابلات واختبارات القبول للبرامج.

وفتحت الشركة الباب واسعاً أمام الشباب ليتقدموا وأمام الأفكار لِتُطرح وأمام التجارب لتتوالى ، ولم يكن هنالك من حجر على شيء يحقق مصلحة أو يضيف إلى نتيجة إيجابية والتحق الشباب والفتيات ببرامج لم يكن كثير من السعوديين يفكرون في الالتحاق بها، إذا كانت البيئة تسهم في صياغة عنصر التردد أمام سراب خادع من قيم اجتماعية لا أساس لها حتى إذا وجد الشباب والفتيات أن العمل الشريف والكسب الشريف هما أساس النجاح ومحوره وليس ما ينظر به فلان أو ما يقوله فلان أصبح للإنجاز طعمه وللنتيجة حلاوتها. فكان الحرص والتركيز على أن نعطي للشباب قدرا أكبر من الثقة من خلال تقديم القروض الصغيرة للتدريب على مهنة أو حرفة أو إقامة مشروع صغير فكان برنامج الليموزين ناجحاً وبرنامج الطبخ ناجحاً وبرنامج الحلاقة ناجحاً وبرنامج البائعين ناجحاً إلى آخر قائمة البرامج، ثم كانت ثم حرصنا على أن نعطي السيدات في القرى والهجر الفرصة ليكونوا أكثر إنتاجية وأعمق أثرا في مجتمعاتهم لزيادة دخلهم وتطوير قدراتهم وتقديم القروض المتناهية الصغر لانطلاق مشاريعهم فكانت هنالك قروض لسيدات لم يباشرن عملاً من قبل وعملن من منازلهن بقروض صغيرة للغاية بل متناهية الصغر، وكانت هنالك أيضاً قروض لأصحاب مؤسسات صغيرة وهذه القروض بدون فوائد ويستغرق سدادها ما بين ستة أشهر إلى خمس سنوات ووجد الجميع أن عجلة النجاح تدور وأنها تأخذ طريقها إلى طريق طويل ولكنه مليء بالمفاجآت السارة. تلك إحدى المساهمات الممكنة وإحدى التجارب التي تم تطبيقها والتي يمكن لكل شركة أومؤسسة ان تعمل شيئا مشابها أو أفضل ليكون لها في مجتمعها بصمة ولتخرج من نطاق الربحية التجارية المعتاد إلى أفق المسؤولية الاجتماعية الجديد بحيث تصبح رائدة في مجال ما تخدم من خلاله الفرد ليتم بناء المجتمع. * رئيس مجلس إدارة برامج عبد اللطيف جميل لخدمة المجتمع