معهد أميركي: تريليون دولار غير شرعية تهرّب سنويا من الدول الفقيرة إلى الغنية

الخلافات لم تحل في اجتماع السبع بشأن ديون الدول الأفريقية الفقيرة

TT

اقتربت مجموعة السبع في اجتماع وزرائها ومحافظي بنوكها المركزية في نهاية الأسبوع الماضي، من التوافق بشأن إيجاد حل لديون الدول الفقيرة في أفريقيا بصورة أساسية. وتضم مجموعة السبع الولايات المتحدة واليابان وألمانيا وبريطانيا وفرنسا وايطاليا وكندا، وتشارك روسيا في بعض المناقشات. لكنها أخفقت في وضع خطة مفصلة لتنفيذ نيتها الخيرية قبل عقد اجتماع الدول الغنية الكبرى الثماني في يوليو (تموز) المقبل. لكن، كخطوة أولى اتفقت الدول الغنية السبع على ضرورة تأمين تمويل إضافي لصندوق الدول الأكثر فقرا، فيما طرح غوردون براون، وزير المالية البريطاني، ضرورة شطب الديون بالكامل عوضا عن الاكتفاء بتمويل الفوائد المترتبة عليها. وإذا لم يتم الاتفاق على حل وسط قبل الصيف المقبل، سيتعين على أوروبا وشمال أميركا إيجاد حلول منفردة، ربما لا تؤدي في نهاية المطاف إلى حل قضية ديون الدول الفقيرة المستفحلة. الولايات المتحدة تحبذ شطب الديون المتعددة الأطراف، كتلك المترتبة للبنك الدولي، وكندا وبريطانيا، طالما أن هذه الأطراف تقبل من حيث المبدأ بشطب الديون المستحقة لها. وتنادي واشنطن، التي تسعى حاليا لمعالجة عجز الميزانية المستفحل لديها، بشطب نحو أربعين مليار دولار مستحقة للبنك الدولي ولبنك التنمية الأفريقي على 33 دولة فقيرة. ورفضت الولايات المتحدة الطرح البريطاني المنادي بالاقتراض لتسديد الديون مقابل دفعات المساعدات الدولية المستقبلية. ويواجه الرئيس الأميركي جورج بوش، صعوبة كبيرة في طرح إي طلب بزيادة الدعم للدول الفقيرة أمام الكونغرس، بينما الكل يطالب بتقليص عجز الموازنة الأميركي، الذي يهدد باختلالات واسعة تترك آثارها الفادحة على حركة الاقتصاد العالمي. ومن «حالات الخلل» هذه العجز الميزاني والتجاري للولايات المتحدة وتراكم احتياطات العملات الصعبة في الدول الآسيوية. وقال مسؤول أوروبي إن «هذا الخلل» ينذر بسيناريو أسود وأزمة ثقة يمكن أن يعرقلا النمو العالمي. وأوضح مشاركون أن أسعار النفط التي ما زالت تتجاوز الخمسين دولارا للبرميل، كانت الموضوع الرئيسي الذي هيمن على المناقشات.لكن الدول المستهلكة الغنية والفقيرة تبدو عاجزة حاليا عن مواجهة ارتباطها بإرادة البلدان المنتجة والضعف البنيوي للقطاع. وقد تفاقمت الاضطرابات الاجتماعية خلال الأسبوع الجاري في أميركا الوسطى، بينما تزايد القلق في أوروبا والولايات المتحدة. أما الصين، التي حضرت الاجتماعين السابقين لمجموعة السبع، فقد تغيبت هذه المرة. وقد دعا الاجتماع رسميا قادتها إلى المرونة في نظام صرف العملات، الذي يرى الغربيون أنه غير منصف.

المفوض الأوروبي للشؤون المالية، جواكين المونيا، قال إن «الاجتماع (في واشنطن) لم يشهد تحسنا كبيرا حول هذه المسائل». وعبرت المنظمات غير الحكومية الحاضرة على هامش الاجتماعات عن استيائها من هذا البطء، منها المنظمة البريطانية، جوبيلي ديبت كامبين، التي حذرت من أن «مليوني طفل ماتوا منذ الاجتماع السابق لمجموعة السبع في فبراير (شباط) الماضي. وتظاهر حوالى مئتي شخص السبت للمطالبة بالغاء الديون فورا في جو أكثر هدوءا مما كان قبل خمس سنوات حين أدى تظاهر عشرين ألف شخص إلى عرقلة سير الجلسات. وشكلت عطلة نهاية الأسبوع فرصة للرئيس المقبل للبنك الدولي، بول وولفويتز، الذي يثير تعيينه جدلا كبيرا، لإجراء اتصالاته الأولى مع زملائه الجدد. وقال الوفد الفرنسي إن وولفويتز ترك انطباعا إيجابيا.أما الرئيس المنتهية ولايته للبنك جيمس ولفنسون، فسيغادر المنصب الذي شغله عشر سنوات في نهاية مايو (أيار) المقبل بعد عمل «مثير للجدل» في نظر المنظمات غير الحكومية، «ورائع» على حد تعبير مجموعة السبع. وسيبدأ عمله مبعوثا خاصا للجنة الرباعية (الولايات المتحدة وروسيا والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي) للمساعدة في عملية الانسحاب الإسرائيلي من غزة. على أن معالجة ديون الدول الفقيرة لا تتم بالمساعدات بقدرما تحتاج إلى وقف النزف الدائم في موارد تلك الدول لجهة تهريب أموال الفساد إلى الدول الغنية. فالباحث ريمون بيكر، من مركز دراسات السياسة الخارجية في معهد بروكنغز الأميركي، قدر حجم الأموال المسروقة من الدول الفقيرة والدول النامية بتريليون دولار سنويا. وقال في دراسة أخيرة له إن نصف هذا المبلغ، أي 500 مليار دولار، يجد طريقه إلى الدول الغنية، بينما لا يتجاوز حجم المساعدات الخارجية للدول الفقيرة عشر هذا المبلغ (50 مليار دولار). ورأى أن المال الذي يهربه الفاسدون إلى الخارج، نادرا ما يعود إلى دولهم. وكانت مبادرة رئيس الوزراء البريطاني توني بلير أوصت بزيادة 25 مليار دولار من المساعدات للدول الفقيرة حتى عام 2010، فيما أوصى برنامج الألفية التابع للأمم المتحدة بمضاعفة المساعدات للدول الفقيرة خلال عقد من الزمن. وكل هذه الإجراءات تبقى مجرد تضميد لجروح الدول الفقيرة التي تنزف مبالغ ضخمة من المال على يد الزعماء والبيروقراطية الفاسدة. ولقد دل الفساد في «برنامج النفط مقابل الغذاء» على مدى تغاضي العالم عن المعاناة التي تتعرض لها الدول الفقيرة جراء الاستخفاف بثرواتها واستباحتها. مركز دراسات السياسة الخارجية الأميركي يقسم أموال الفساد إلى ثلاثة أقسام: الفساد، والجريمة، والتجارة.

وغالبا ما تتم الجرائم الثلاث بمساعدة المسؤولين الفاسدين، أو على أيديهم، بينما تساعد النظم المالية والقوانين في الدول الفقيرة على تبييض الأموال، وجذبها حتى إلى أكثر الدول مناداة بمحاربة تبييض أموال الجريمة. وقدرت دراسات خاصة أنه تتم سنويا سرقة ما بين خمسة وسبعة في المائة من تجارة الدول الفقيرة، وهذه تقدر بـ200 مليار دولار سنويا، تبقى عائداتها في الخارج. ولو أن هذه الأموال بقيت في دول المنشأ، لأدت إلى حدوث انتعاش اقتصادي كفيل بمعالجة كافة المشاكل التي تعاني منها الدول الفقيرة، فضلا عن تأمين التعليم والطبابة، والوظائف وبناء المشاريع الإنتاجية. وبالتالي يدعو المركز إلى إقفال أبواب تحويل أموال الفساد إلى الدول الغنية التي تظهر دائما بمظهر المحسن للدول الأفقر. وقدر المركز عدد ملاذات أموال الفساد في العالم بـ60 مركزا في دول وجزر معروفة. وهناك نحو مليون شركة وهمية تعمل كوسائل لتبييض الأموال وإعادة استثمارها في نشاطات مشروعة مسببة غلاء فاحشا في احتياجات شعبية أساسية، أبرزها رفع أسعار احتياجات حيوية كالسكن والعقارات التجارية فضلا عن المضاربة في تجارة المواد المعيشية الأساسية. وأضاف مركز دراسات السياسة الخارجية الأميركي، أن هناك ما لا يقل عن ثمانية تريليونات دولار مودعة في مراكز أوفشور (مراكز مالية حرة) تساعدها قوانين «غربالية» على النجاة من الملاحقة. وهذه الأنظمة معتمدة في الغرب كما هي معتمدة في الدول الأقل احتراما للقوانين. وهناك مصارف وشركات مالية متخصصة في تسهيل عملية التهرب من مواجهة القانون، وتسهيل عمليات تبييض الأموال المسروقة من الأمم الضعيفة.

مركز دراسات السياسة الخارجية كما جاء في تحليل نشره الباحث ريموند بيكر في صحيفة «إنترناشنال هيرالد تريبيون» أخيرا، يقول إن الولايات المتحدة بين العديد من الدول التي تغض النظر عن أموال الجريمة، وتسمح باستقبالها بشكل شرعي. فالقانون الأميركي يسمح «باستخدام أموال جنيت من جرائم ارتكبت في الخارج، بما في ذلك الخوّة (العتولة)، والاحتيال في سوق الأوراق المالية، وتزوير السلع أو العملات، وتهريب البشر، وتجارة العبيد، والدعارة، والتهرب من الضرائب». («هيرالد تريبيون» عدد 13 أبريل (نيسان) 2005).

ورأى بيكر أن أية مساعدات من الدول الغنية لا تلحظ إقفال الباب الخلفي للفساد تبقى عديمة الفائدة، لأنها بمثابة تقديم المساعدة الهزيلة بيد، واستقبال الغنائم المسروقة باليد الأخرى.