خبراء يتحدثون لـ«الشرق الاوسط» عن مستقبل لبنان في ظل دور خامل لسوقه المالية

بورصة بيروت انطلقت عام 1920 وأوضاع البلد منعت تطورها

TT

أمام المشهد الاقتصادي غير المستقر في لبنان منذ سنوات طويلة يبدو لافتاً غياب دور السوق المالي في تنشيط الحركة المالية والاستثمارية، ودعم صمود الاقتصاد الوطني المثقل بدين عام بدأ يلامس سقف 40 مليار دولار. لماذا يستمر غياب السوق المالي بمفهومه الشامل الحديث؟ ولماذا لا توجد رهينة رقابية مالية مستقلة منتشرة على عمليات التداول ومقفلها؟ هذه الاسئلة وغيرها طرحتها «الشرق الأوسط» على خبراء ماليين واقتصاديين في لبنان.

الدكتور سعد عنداري يقول: تكمن المشكلة في ـ القاعدة الانتاجية ـ حيث لا نملك في لبنان ما يعرف بالشركات الكبرى والمشاريع الكبرى، التي تملك مشاريع التمويل الطويلة الأجل.. كما هو الحال في الدول الخليجية، اذا لم نقل في الدول الصناعية المتقدمة.. يعني بصراحة مشكلتنا هي ان قاعدتنا الانتاجية قائمة على شركات عائلية صغيرة تسيطر عليها العائلة الواحدة، مما يجعلها شركات مغلقة، ويخلق بالتالي مشكلة في موضوع الشفافية الحقيقية في عملية الافصاح عن الأوضاع المالية لهذه الشركات، وهذا طبعاً سينعكس على عملية التداول في البورصة بصورة سلبية، لأن سعر الاسهم لا يعكس القيمة الحقيقية لتلك الشركات، زد على ذلك ان مثل هذه الشركات يقتصر تمويلها على التمويل الذاتي أو التمويل المصرفي القصير الأجل.. في حين أننا وكأي دولة تهدف الى تطوير اقتصادها بحاجة الى وجود شركات كبيرة بقاعدة مساهمات واسعة ومتنوعة تتجاوز بوجودها سيطرة العائلة الواحدة ويكون لديها مشاريع تمويل طويلة الأجل... فهذه الشركات وهذه المشاريع هي التي تنهض فعلاً بالعمليات الاقتصادية، ويضيف عنداري قائلا: مشكلتنا ايضاً في لبنان اننا لا نملك سوى التمويل القصير الأجل. وحتى نتمكن من جذب الشركات الكبرى إلى سوقنا المالي يجب ان يكون عندنا استقرار سياسي واستقرار نقدي، فاستقرارنا النقدي دائماً محفوف بالمخاطر، وهذا ليس رأيي وحدي، وانما هذا ما يطالب به فعلاً كبار المستثمرين، كما تجب معالجة الشق الخاص بمالية الدولة، من خلال العمل بجدية على خفض العجز واطفاء الدين وتحرير اموال جديدة لاستخدامها بالسوق المالي. ويقول: لنضع امامنا تجربة بعض الدول النامية والناجحة، في ايجاد حوافز لجذب الاستثمار مثل ماليزيا والهند وغيرهما، فهذه الدول لا تملك اكثر مما نملكه من عوامل جذب للاستثمارات في معظم القطاعات مثل السياحة والمعلوماتية وغيرها. وما نحتاجه هو سلطة قادرة على تحفيز هذه الامكانيات وتحويلها الى نقاط جذب من خلال استحداث وتطوير القوانين ومن خلال الخصخصة، ولكن طبعاً باعتماد الطرق العلمية الصحيحة كما فعلت انجلترا بهذا المجال.. وهذه أمور تطلق العنان للعمليات في الاسواق المالية على اوسع واكمل وجه. ويؤكد عنداري: هذه الامور تحتاج لقرار سياسي وحتى نصل لهذا القرار ونحصد ايجابياته لا بد من التغيير وهذا يعني بمضمونه تغيير الطاقم التقليدي وافساح المجال امام نخبة من الشباب المتخصص من ذوي الرؤية السياسية والاقتصادية التي تتلاءم مع متطلبات الاقتصادات النامية القابلة للتحديث والتطوير المستمر. وحول اهمية دور شركات القطاع الخاص في تنشيط السوق المالي يركز فايز رسامني ـ أحد كبار مساهمي شركة رسامني للسيارات ـ على أهمية الترويج للاسهم ضمن الأسواق المالية من خلال رؤية اقتصادية شاملة، حيث ان المشكلة في عمليات البورصة عندنا، انه لا يوجد ما يعرف فعلاً بعملية «العرض والطلب»، فالأسهم معروضة ولكن من يروّج لها؟ وما هي الحوافز التي تساهم بتنشيط الحركة في العرض والطلب؟ لذلك نلاحظ ان القيمة النقدية لاسهم الشركات المعروضة وسعر تداولها لا تعكس القيمة الحقيقية للشركات فالسهم «ينام» اذا صح التعبير على سعره لمدة ثلاثة ايام ويبقى على حالته رغم ان الشركة صاحبة السهم تكون في تلك الفترة حققت حركة ارباح جيدة. وهذا يشكل مشكلة في الأسواق المالية.. وبهذه الحالة لا يمكن للقطاع الخاص وأصحاب الشركات في لبنان القيام بأي عمل حيال الأمر، لأن الحافز الرئيسي والمحرك والمنشط لدور البورصة ودور القطاع الخاص وجذب المستثمرين، هو وجود برنامج تحد اقتصادي شامل الى جانب الاستقرار السياسي.. وهذا ما تفتقده في لبنان فكل رئيس حكومة يأتي ببرنامجه الاقتصادي الذي ينتهي بانتهاء ولايته. وبهذه الحالة لا يجرؤ الكثير من المستثمرين على الاستثمار والتداول في البورصة التي تنشط بدورها الدور الاقتصادية اللبنانية. ويقول رسامني: المطلوب وجود حكومة قادرة على تحقيق الأمن السياسي والاستقرار الأمني مع وضع برنامج اقتصادي انمائي يتم اعتماده وتنفيذه بما يتلاءم ومصلحة البلد واقتصاده. وحول أهمية وجود هيئة رقابية مستقلة على أسواق الأوراق المالية، ولماذا لم يتم تنظيم هذه الاسواق للآن. يقول الدكتور ناصر السعيدي وزير الاقتصاد والتجارة السابق والنائب الاول السابق لحاكم مصرف لبنان: من الضروري اعادة تنظيم البورصة والاسواق المالية في لبنان، لا سيما في ظل التطورات المتسارعة التي شهدتها الاسواق المالية العالمية خلال العقدين الماضيين وبالاخص في مجال المعايير الدولية المتحدة. وبالنظر لما لهذا الامر من انعكاسات ايجابية على الدورة الاقتصادية وعملية اعادة الإعمار، وذلك من خلال تأمين آلية لاستقطاب المدخرات المحلية والاجنبية وتوظيفها في استثمارات داخل لبنان. بما يخدم هدف إعادة اطلاق لبنان كمركز مالي لاستقطاب وتوجيه رؤوس الاموال لتأمين التمويل المتوسط والطويل المدى للدولة والشركات، خلافاً للدور الذي كان اضطلع به في فترة ما قبل الحرب. كقناة لتحويل المدخرات الوطنية والاقليمية الى الاسواق المالية مع اوروبا الغربية وأميركا، سيما أن المنطقة بحاجة الى تدفقات مالية كبيرة خلال العقد المقبل لاعادة اعمار نتائج الحروب وتأمين ازدهار المنطقة على كافة الاصعدة. ويتابع الدكتور السعيدي: يجب علينا المبادرة الى تعديل قانون البورصة الذي يعود في شكله ومضمونه والاساليب التي ينص عليها الى مرحلة الستينات. وذلك ليتلاءم والمفاهيم والمعايير الحديثة للبورصة والاسواق المالية، ويسمح باعتماد احدث اساليب العمل ووسائله بحيث تتمكن البورصة من القيام بدورها في تعزيز الاقتصاد الوطني، ويتاح بالتالي للاسواق المالية الاخرى ان تكون على المستوى الذي يحتاجه اقتصادنا. ولكل هذا لا بد من وجود سلطة مالية علينا تشرف على تنظيم انشاء مختلف انواع الاسواق المالية وفقاً للمعايير العالمية المتعارف عليها، وتتمتع هذه السلطة بالاستقلال التام في ممارستها لمهامها فلا يكون للسلطات السياسية او للمؤسسات الخاصة الاخرى، خصوصاً المعنية بالعمليات المجراة من خلال الاسواق المالية، اي تأثير مباشر على قراراتها وذلك على غرار ما هو معمول به بالنسبة لهيئة SFC الاميركية او هيئة COB الفرنسية. ويقول السعيدي: لقد ركز مشروع القانون الذي تقدمت به اثناء وجودي في البنك المركزي على مبدأ، الفصل بين السلطة المالية المكلفة الاشراف والرقابة العامة على نشاطات الاسواق المالية، وان تترك مبادرة للقطاع الخاص ومؤسساته. كما ان مشروع القانون اناط مهام هذه السلطة المالية بمجلس يسمى «المجلس الوطني للاسواق المالية»، مهمته المحافظة على سلامة الادخار الموظف بالصكوك والحقوق المالية المعدة للاكتتاب العام والمحافظة على سلامة الادخار الموظف في الاسواق المالية، بهدف تطوير وتشجيع الاستثمار في الاسواق. على ان يتولى ادارة المجلس مجلس ادارة يتكون من ستة اعضاء يتمتعون بالحصانة والاستقلالية. وعن اسباب عدم الاخذ بمشروع القانون او بتطويره قال السعيدي: في الحقيقة يبقى غياب الرؤية العلمية المتطورة للدولة حول مفهوم دورها والانتقال من مرحلة الدور التنفيذي الى الدور التنظيمي والرقابي كما في الدول المتطورة، والافساح في المجال امام القطاع الخاص اكثر فأكثر، المشكلة الرئيسية عندنا، وغياب هذه الرؤية، اوجد هذا التردد لدى مصرف لبنان ووزارة المالية فيما يتعلق بإنشاء هيئة رقابية مستقلة للاسواق وهذا خطأ جسيم. وهنا، لا ادري، لعل السبب يكمن في مصالح اصحاب المصارف، لأنه بوجود اسواق مالية ناشطة، تتأذى مصالح المصارف. مثلاً لو كانت اسواق اوراقنا المالية ناشطة لما كانت عملية تمويل مرحلة اعادة البناء والإعمار تحدث عبر القطاع المصرفي عن طريق الاصدارات، وعبر الاسواق المالية، وبالتالي كانت التطورات ادوات مالية جديدة، عبر تطور دور القطاع الخاص، ولكان الدين العام اقل واقتصادنا افضل حالاً.

الدكتور فادي خلف رئيس بورصة بيروت يقول من جهته: صراحة سوق الاوراق المالية او البورصة في لبنان موجودة منذ عام 1920، وكان لها دورها الاقتصادي المميز في المنطقة، ولكنها توقفت قسراً بسبب الحرب الاهلية، ثم عادت للعمل منذ عام 1996 وتطورت بأدائها بحيث بدأت في العامين الأخيرين تستعيد بريقها في حركة التعامل.. ولكن ما ينقصنا في لبنان هو وجود هيئة رقابية على الاسواق المالية. فالرقابة غير كاملة عندنا وهنا يجب الا يعتقد البعض اننا وسط فراغ رقابي، لأن الرقابة على الاسواق المالية تتوزع حالياً بين هيئتين: الاولى، هي رقابة المصرف المركزي على المؤسسات المالية، والثانية، هي رقابة البورصة على التداول. واضاف خلف: تكمن اهمية وجود الهيئة الرقابية في المهام المنوطة بها، بما فيها من التحقيق والثانية لكافة التطورات الحاصلة عالمياً في هذا القطاع لاستنباط مشاريع القوانين، التي من شأنها تطوير وتحسين شروط اداء وحركة الاسواق المالية. وعدم وجود هذه الهيئة في لبنان لا يعني انها السبب الرئيسي في نسبة تطور حركة التداول في البورصة، لأنه لا يجب ان نغفل أهمية عامل الاستقرار السياسي وايجابياته وتداعياته.