التقارير الاقتصادية تثير جدلا ساخنا في السعودية بين محاولة كبت زيادة التضخم وتحديد نسب البطالة

في ظل التأكيد على ضرورة إفصاح الجهات الحكومية عن المعلومات وآلية احتساب المؤشرات

TT

أثارت بعض التقارير الاقتصادية الحكومية، التي تصدر عن الأوضاع الاقتصادية في السعودية بصفة دورية (سنوية وربع سنوية وشهرية وكل أسبوعين)، الجدل حول المعايير المستخدمة والوضوح الذي تحمله، لما تعكسه من مؤشرات مهمة، مثل المستوى المعيشي والتضخم ومتوسط سعر الفائدة ومؤشر سوق الأسهم، حيث يرى البعض أن من الأهمية بمكان تحديد وتوضيح أسس إعداد تلك التقارير والمؤشرات وتحديد ما هو موافق منها للأسس المتعارف عليها ومعمول بها عالمياً، وما هو مخالف، وأسباب ذلك الخلاف، وأثره في النتائج التي يتم التوصل إليها.

فعلى سبيل المثال يثار بين الحين والآخر، ان نسبة البطالة أعدت بناء على أسس تختلف عن المعمول بها والمتعارف عليها في دول العالم الأخرى، كما لا يؤخذ بالاعتبار تأثير المرأة العاملة في نسب البطالة، وكذلك عند تحديد نسبة التضخم، يستغرب البعض أن نسبة التغيير لا تتواكب مع ما يراه ويلمسه المواطن العادي ويعايشه في حياته اليومية (حتى غير المتخصص) من الارتفاع والقفزات في أسعار السلع الضرروية التي يشتريها يومياً.

وحول هذا الموضوع، يقول الدكتور عبد الرحمن بن إبراهيم الحميد أستاذ المحاسبة والمراجعة بجامعة الملك سعود بالرياض، إن المؤشرات الاقتصادية تعتبر المرآة الأساسية العاكسة للآداء الاقتصادي والاجتماعي للمجتمعات الإنسانية، وتبنى هذه المؤشرات بناء على نظريات علمية يتم عكسها في شكل نماذج رياضية متعددة. وتعتمد هذه النظريات أساسا على فرضيات منطقية وليست علمية، فكلما قوي الجدل المنطقي للفرض، قويت نظرية قياس المؤشر والعكس بالعكس.

وبين الحميد أنه لا توجد حتى الآن مؤشرات محددة يمكن أن يطلق عليها مؤشرات علمية، توافرت فيها شروط القياس العلمي، مشيراً إلى ان النماذج الرياضية المستخدمة في كثير من دول العالم لقياس المؤشرات الاقتصادية، على الرغم من شيوع استخدامها ورسوخ معظمها، الا أنها ما زالت محل جدل نظري بين علماء الاستثمار والاقتصاد. بالإضافة إلى ذلك، فان قوة مخرجات النماذج الرياضية يعتمد بشكل جذري على مصداقية مخرجات تلك النماذج. فكلما قلت مصداقية تلك المدخلات (الإحصاءات)، أدى ذلك إلى ضعف مخرجات تلك النماذج وبالتالي قلة موضوعية تلك المؤشرات عليها.

ويشير الحميد الى أن درجة الوضوح وتحديد المعايير للتقارير والمؤشرات الاقتصادية تعتمد بشكل مباشر على إفصاح الجهة المصدرة لتلك المؤشرات عن النماذج الرياضية المستخدمة لوجود خيارات متعددة لاحتسابها، كذلك أيضا على دقة مدخلاتها، مشيراً إلى ان استخدام المؤشرات الاقتصادية يعتمد أيضا على مقارنتها طوليا وعرضيا، ويقصد بالأول المقارنة من خلال السلسلات الزمنية، وتعتمد علمية المقارنة على اختيار سنة الأساس والاستمرارية في استخدام النماذج الرياضية. أما العرضية فتعتمد بالدرجة الأولى على تطابق مدخلات النماذج الرياضية وأساليب استخدامها، مؤكداً أن عدم الإفصاح الكافي عن هذه المعلومات يصعب على مستخدمها التأكد القاطع من أسلوب بناء المؤشرات ومصداقية مدخلاتها، وبالتالي مخرجاتها.

كما يرى الدكتور محمد بن سلطان السهلي بقسم المحاسبة جامعة الملك سعود، أن ربط المواطن العادي بين الارتفاع في أسعار السلع الضرورية ونسبة التضخم التي تصدرها مؤسسة النقد يتوجب التفريق بين مستوى الأسعار ونسبة التضخم، مشيراً إلى أن ارتفاع الأسعار لبعض السلع لا يعني وجود تضخم في البلد، كون الوضع الطبيعي في السوق، هو ارتفاع أسعار سلع وانخفاض أسعار سلع أخرى، كما أن أي طفرة في أسعار سلعة ما لا يعد تضخماً، إلا إذا استمر هذا الارتفاع لعدة سنوات.

وضرب السهلي مثلاً، بأنه إذ ارتفعت أسعار الرعاية الطبية بنسبة 25 في المائة وانخفضت تكاليف السكن بنسبة 25 في المائة في عام معين، فقد تكون النتيجة انخفاض في مستوى المعيشة (وليس ارتفاعا). على أساس أن انخفاض تكاليف السكن يؤدي إلى انخفاض الإنفاق لدى الفرد، إذ ان مقدار ما تم توفيره لانخفاض تكاليف السكن يفوق الزيادة في تكاليف الرعاية الطبية، مما يتوجب ضرورة التوضيح، أن نسبة التضخم لا تقيس مباشرة المستوى العام للأسعار، وإنما تقيس نسبة التغير في ذلك المؤشر، مشيراً إلى أن هذا من الأمور التي تثير بعضا من اللبس للشخص العادي الذي يقيس التضخم من خلال ارتفاع أسعار السلع التي يشتريها.

وأكد السهلي ضرورة إزالة اللبس من ذهن المواطن، بتوضيح الأسس التي اعتمد عليها، عند إعداد تلك المؤشرات، مشيراً إلى ان مؤسسة النقد «ساما» تستخدم الرقم القياسي العام لتكاليف المعيشة كمقياس للتضخم، الذي يتوجب ضرورة تثقيف العامة بأسس حساب المؤشرات الاقتصادية العامة. كما أنه من الضروري أن تفصح مؤسسة النقد في تقاريرها الدورية عن السلع والخدمات الأساسية التي تدخل في حساب المؤشر، وعن الأوزان الترجيحية لتلك السلع والخدمات.

وحول تقارير البطالة، ذكر الدكتور السهلي أنه لحساسية موضوع البطالة فإن التقارير التي تتناول الموضوع يجب أن تكون أكثر موضوعية، خصوصاً مع وجود تضارب في النسب التي تصدرها الجهات المهتمة، مما أوجد اختلافا حتى بين الاقتصاديين حول تعريف البطالة أصلاً، مما انعكس على الدراسات التي تتناول البطالة.

وأوضح السهلي أن عدم دقة المفاهيم والمصطلحات ينعكس سلباً على نتائج الدراسة. ومن ذلك أن البعض يعرف البطالة بأنها «وجود رغبة لدى العامل للعمل عند مستوى معين من الأجور»، بينما يعرفها البعض بأنها «نسبة عدد العمال العاطلين إلى عدد القوى العاملة في البلد»، مما اوجد مشكلة المفاهيم من الناحية الاقتصادية ومن الناحية الاجتماعية.

وتساءل السهلي، هل يمكن النظر إلى المرأة السعودية، التي تتولى إدارة شؤون بيت الزوجية وتقوم برعاية أطفالها، بأنها امرأة عاطلة عن العمل؟ بينما أنها لو لم تقم بذلك لاضطررنا إلى البحث عن عاملة تتولى هذه المهمة، وتساءل أيضاً عن المفاهيم التي تتعلق برغبة المرأة السعودية بالعمل؟ ومستوى الأجر المعين؟ مشيراً إلى ان هذا الغموض سوف يزيله الإفصاح عن أسس ومعايير إعداد مؤشرات البطالة والإفصاح كذلك عن المنهج والطريقة الإحصائية المستخدمة في التقارير.

وأكد السهلي ضرورة النظر إلى تلك التقارير بطريقة موضوعية، وعدم اعتبار نتائجها دقيقة وصحيحة، لان الاعتقاد السائد بأن الأرقام لا تكذب يمكن أن يضلل القارئ، كون نتائج الدراسات والتقارير الإحصائية هي في الواقع نتائج تقريبية وتقديرات مبنية على العينات والاحتمالات. وتعميم النتائج الإحصائية يعتمد على العينة المستخدمة في الدراسة.

وقال السهلي «إن الجهات المعنية التي تصدر تقارير إحصائية يجب أن ترفع من مستوى الثقة بتلك التقارير من خلال وصف المنهج المستخدم في جمع العينات، فقبول النتائج يعتمد على الثقة في المنهج المستخدم، لذا فإن هذه التقارير يجب أن توضح خطوات المنهج المستخدم وأن تكشف عن مصادر المعلومات وكيفية اختيارها. كما أن الجهات المصدرة لتلك التقارير يجب أن تلتزم بالموضوعية وعدم التحيز، فالدراسات والتقارير يجب أن تهدف إلى كشف الحقيقة وليس كسب الحوار».