«الشرق الاوسط» قبل أن يتسع الرتق على الرقع

TT

ثمة قانون شائع تسنة فروض الحياة، مفاده «ان في اوقات الازدهار تختفي العيوب تحت أجنحة الرخاء، وفي اوقات الانكماش يبدأ الجميع في منطقة الأخطاء». وقد يبدو هذا جليا في الحماسة الثائرة التي تصاحب الصعود القوي والمحموم للقيم السوقية للأسهم المتداولة وفي ذات الوقت كم الحكمة الهائل الذي ينتاب كل اللاعبين في اسواق المال على اختلاف مواقعهم او ادوارهم في فترات الهبوط القاسية.

ان ملامح هذه الطفرة التي بدأت تتشكل ملامحها ما زالت مجهولة في قوتها وطول فترتها، وعيبها الهيكلي هو اعتمادها بشكل رئيسي على ثروة طبيعية متقلبة التقييم، وهذا لن يجعلها ابدا في مأمن من فترات الركود المصاحبة للدورات الاقتصادية التي ربما تحرف الجميع عن طريق التنمية المستدامة.

قبل فترة، تناقلت وكالات الأنباء تقريرا لغولدمان ساكس، أشارت فيه إلى ان اسعار النفط قد تتجاوز 100 دولار. وقبل ايام خرجت مورغان ستانلي بتقرير آخر، مفاده ان اسعار النفط مقبلة على تصحيح كبير سيقودها للهبوط بفعل التباطؤ المتوقع في مناطق الطلب الرئيسية حول العالم. وبغض النظر عن رجاحة اي من الرأيين فبيت القصيد ان النفط سيظل دوما سلعة متقلبة، فعندما لامست اسعاره القاع ـ عبر التاريخ ـ لم يشعر أحد انها ستقلع من جديد وعندما ارتفعت، ايضا، لم يقتنع أحد بانها ستهبط وفي كل الأحوال لامست اأاسعار القاع والعُلى، وظل النفط عرضة للتقلبات التي تفرضها قوى السوق والمؤثرات الجيوسياسية.

الآن في هذا القسم من الأرض يشهد الجميع حفلة صاخبة يصاحبها رواج منقطع النظير يعم اسواق المال الإقليمية جمعاء، ويعكس هذا بوضوح القيمة السوقية لاسواق مجلس التعاون التي ارتفعت من نحو 120 مليار دولار عام 2000 لتصل الى نحو 900 مليار دولار منتصف 2005 فقط! واذا ساهمت الاصلاحات الاقتصادية والتطورات الهيكلية في مجال التشريعات جزئيا في هذا الارتفاع، فلا جدال ان نصيب الأسد في هذا الارتفاع يعود بشكل جذري الى ارتفاع مستويات السيولة غير المسبوقة بفضل اسعار النفط.

في ظل هذه الأجواء الصاخبة من المناسب الاشارة الى جزئيتين متلازمتين من منظور كلي بحت. الأولى ان تهدئة مناخ الأسواق اصبحت فيما يبدو امرا ملحا. والمعنى هنا ليس محاولة خفض الأسعار بشكل مطلق، بل محاولة قيادة السوق الى القيمة العادلة للمستويات السعرية صعودا او هبوطا، فالسوق ان واصلت الصعود بشكل رأسي على سبيل المثال، فلا بد ان تواجه حملات تصحيحية حادة ومؤلمة، والتأرجحات الحادة التي القت بظلالها على السوق السعودية في الأسابيع الأخيرة تشرح بدقة ما نعنيه هنا، فالسوق خسرت قبل ايام اكثر من 1000 نقطة في دقائق وفي يوم آخر اكثر من 700 نقطة مما اصاب قاعات التداول وقتها بحالة من الهيستيريا واصبحت السوق تعاني حالة من التوتر المزمن مما يدفعها الى الصعود المتسرع والهبوط الأكثر تسرعا لأدنى سبب. السوق بحاجة اكثر من اي وقت مضى الى الهدوء والسكينة ولتحقيق ذلك لا بد من زيادة العمق والاتساع لهذه السوق، وذلك لن يتحقق بدون تسهيل ادراج الشركات الجديدة في السوق من جهة والبدء بوضع خطة زمنية لتعويم الحصص الحكومية التي قد تتجاوز 50 في المائة من حجم السوق السعودية. كما ان مواصلة إحكام الرقابة ورفع مستوى الشفافية رغم ما يصاحبها من مقاومة ستظل مطلبا ملحا من كافة المتداولين وستضمن انسياب ونمو الرساميل المستثمرة في هذه السوق على المدى الطويل بلا جدال.

ان هذه الطفرة التاريخية قد تعد فرصة غير مسبوقة للاصلاح الاقتصادي بمنظوره العام ونحن هنا بحاجة الى فكر اقتصادي بنيوي مبدع وجريء، قادر على تسخير هذه الثورة السعرية الى تنمية مستدامة توفر الرفاه لهذا الجيل واجيالنا المستقبلية.

في الخليج وحده في اكثر التقديرات المتحفظة من مشاريع وتنمية تتطلب استثمارات تتجاوز 300 مليار دولار في العقد الحالي فقط. وبدون دور مشترك مخلص للقطاعين العام والخاص تحت مظلة فكر مبدع وقرار سياسي قوي في توجيه وتوحيد القوى سيبقى الجميع اسيرا لعقلية المضارب وسيرحل المستثمر في ذكريات الزمان، وتذهب طفرة جديدة مثل سابقاتها كحلم جميل يهدينا لذة مؤقتة يعقبها واقع لا يمت بصلة الى ذلك الحُلم.

* خبير اقتصادي سعودي