لبنان يواجه استحقاق الإصلاح الشامل قبل دعم المجتمع الدولي ومعضلة الدين العام تفرض انسجام السياسات المالية والنقدية

حاكم البنك المركزي يبدأ ولاية ثالثة تنتهي منتصف عام 2011

TT

يتزامن بدء الولاية الجديدة لحاكم مصرف لبنان رياض سلامة مطلع اغسطس (آب) المقبل. والتي تمتد الى ذات التاريخ من العام 2011 مع تغيرات بنيوية وهيكلية واسعة تطال مختلف أوجه الحياة العامة في البلاد، من السيادة الى السياسة الى الاقتصاد، وتفرض، فيما تفرض، تبدلاً جوهرياً في ادارة الدولة ومؤسساتها.

واذ يفتقد لبنان بأكمله وجود الرئيس الراحل رفيق الحريري بما يمثله من موقع وقيم وثقل اقليمي ودولي، فإن سلامة سيفتقد اكثر الى الرجل الذي أقنعه عام 1993 بالتخلي عن موقعه كمدير لواحدة من اكبر المحافظ الاستثمارية في مؤسسة «ميريل لينش»، والعودة الى وطنه للمساهمة بدور اساسي، في اكبر مشروع للاعمار والنهوض الاقتصادي عبر اختياره الشخصي له لمنصب الحاكم. وعبر التجديد له لولاية ثانية عام 1999 ومن دون الاعتراض على طموحه بإمكانية الترشح لمنصب رئاسة الجمهورية. وقد لا يكون «افتقاد المرجع» المتغير الأكثر تأثيراً في اسلوب وتوجهات ادارة البنك المركزي والسياسات النقدية في المرحلة المقبلة، حيث سبق للحاكم ان تعايش ودياً مع حكومات لم يرأسها الحريري. واختط لنفسه، في ولايته الثانية، طريقاً اعتقد انها تضعه على مسافة واحدة من المرجعيات الكبرى التي تطورت تبايناتها تباعاً لتصل الى حدود التشنج والاختلاف الواسع. وبدا معها انه لم يعد جزءاً من مشروع الحريري، رغم حرصه على العلاقة الخاصة التي كانت تجمعهما.

لكن حجم التغير الذي بدأ بالغياب المفجع للرئيس الحريري يوم 14 فبراير (شباط) وما تلاه من تطورات وتداعيات قادت بعد الانتخابات النيابية الاخيرة الى سيطرة المعارضة، بقيادة رئيسية من سعد رفيق الحريري وتيار المستقبل، على الجزء الاكبر من «قرار البلد»، بفعل حصولها على الاغلبية النيابية وتشكيل حكومة جديدة برئاسة فؤاد السنيورة (أقرب المقربين للعائلة وللتيار)، يدفع بالحاكم الى إجراء مقاربة جديدة وأكثر عمقاً لطبيعة التحولات الجارية ومنحاها، ليس على قاعدة «عند تغيير الدول احفظ رأسك»، بل على قاعدة محاكاة التغيير بأحداثه وشخوصه، والعمل على ادارة السياسات النقدية والمالية بمفهوم الانسجام، وتأمين التواصل المشترك للسياستين مع الهيئات والمؤسسات الدولية، وفي مقدمها صندوق النقد والبنك الدوليين.

وتؤكد أوساط اقتصادية ومصرفية رفيعة المستوى، بأن «البرودة» التي تطبع علاقة سلامة بالرئيس السنيورة، منذ فترة غير قصيرة، ليست الصفة المطلوبة لإدارة سليمة وناجحة في المجالين النقدي والمالي خصوصاً في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة التي يعانيها لبنان والالتزامات السابقة والحالية للكتل النيابية والسياسية ببدء إصلاح اداري ومالي شامل يؤسس لاستعادة النمو الاقتصادي بمعاونة المجتمع الدولي. وهذا ما يفرض على الحاكم الانسجام مع الحكومة الجديدة وتطلعاتها وإزالة ما علق من شوائب بعلاقته مع رئيسها من مرحلة ماضية.

وسيكتشف سلامة تباعاً، برأي هذه الاوساط، حصول بعض التناقض في هامش حركته الواسع الذي تمتع به في الولايتين السابقتين وذلك كانعكاس بديهي لتبدل المشهد السياسي وتغير ميزان القوى. ومع الاقرار بأنه لم يتجاوز الصلاحيات الممنوحة له، بموجب قانون النقد والتسليف، فإن الواقع الجديد سيفرض حكماً ان يتبدل نفوذه من مستوى صاحب القرار الى مستوى احد كبار المقررين في المجال النقدي وفي ادارة الشؤون المصرفية والمالية ويجمع اهل الاقتصاد والخبراء في الداخل والخارج، بأن سلامة لعب دوراً حاسماً في ادارة النقد واعادة هيكلة القطاع المصرفي في اصعب المراحل واكثرها حساسية، ونجح في فصل الليرة عن السياسة وعن احداث كبيرة شهدها لبنان بلغت ذروتها مع اغتيال الرئيس الحريري، لكن الحاجة الى خطوات انقاذية جذرية، في المرحلة الحالية، تفرض تأمين انسجام تام بين الاصلاح الذي تتعهد الحكومة بمباشرته وبين الاستقرار النقدي وحفز القطاع المصرفي على الاستمرار بسياسة تمويل احتياجات الدولة والقطاع الخاص.

وفي واقع الأمر، فإن تعاظم حجم الدين العام الى مستويات حرجة تتجاوز نسبة 200 بالمائة من الناتج المحلي الاجمالي، هو المعضلة الاهم التي تواجه الحكومة في توجهاتها الانقاذية، وليس منتظراً ان يبادر المجتمع الدولي الى تقديم اي عون مؤثر على غرار مؤتمر باريس ـ 2، قبل انخراط لبنان جدياً بمشروع إصلاحي متكامل يكون الاصلاح المالي قاعدته الاساسية، الامر الذي يتطلب تعاوناً معمقاً بين السلطة المالية ممثلة برئيس الحكومة فؤاد السنيورة وبوزير المال الجديد جهاد ازعور وبين السلطة النقدية ممثلة بالحاكم ونوابه.

ويعتبر اقتصاديون وخبراء، ان انجاز الاستقرار النقدي الذي شكل عنواناً أساسياً لولايتي الحاكم السابقتين، بات من دعائم الاصلاح وحفز النمو الاقتصادي، وفي المقابل، فإن الحفاظ على هذا الاستقرار مع ثقل بوزن يبلغ 40 مليار دولار يمثل حجم الدين العام، لم يعد ممكناً بدون خطة شاملة للاصلاح والنهوض. تلقى تأييد ودعم المؤسسات المالية الدولية وتمهد لمؤتمر دولي جديد يوفر فرصة جديدة لعكس دينامية الدين، ومعالجة الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والمعيشية، خصوصاً وانه يتعذر على الحكومة اعتماد معالجات جزئية، لجأت اليها حكومات سابقة، تقضي بفرض زيادات على الرسوم والضرائب.

ويرى الاقتصاديون والخبراء، ان حال الاستقرار السياسي والامني فوت على لبنان فرصة استثمار مفاعيل باريس ـ 2، وعاد الوضع الاقتصادي للتأزم منذراً بانهيارات غير محدودة، وقد تكون الفرصة سانحة الآن لبدء تنفيذ التزامات الاصلاح ووضع الاقتصاد مجدداً على مسار النمو الذي تراجع الى ما دون الصفر بعد حادثة اغتيال الرئيس الحريري وتداعياتها، كذلك فإن الفرصة قائمة للاستفادة من فورة اسعار النفط وتعاظم الثروات في المنطقة، خصوصاً مع وجود قطاع مصرفي ناشط وحيوي يحوز على موجودات تقارب 68 مليار دولار. والخطوة الاولى لكل ذلك تكون عبر تعاون صريح وعميق بين السلطتين المالية والنقدية.