الفقيد الكبير أدى الأمانة.. والأسواق تبايع رجل الإصلاح

عبد الرحمن فهد الحارثي*

TT

كان مساء حزينا وقاسيا لكل السعوديين، ذاك الذي اعلن فيه رحيل الفقيد الكبير الملك فهد بن عبد العزيز رحمه الله، وفي نيويورك حيث كنت احضر مناسبة اقتصادية، كان وقع الحدث على الجميع بحجم الفقيد ودوره الدولي، وهناك شاركني المواساة عجوز انجلوساكسوني قريب من الشرق الاوسط، وتربطني به صداقة قديمة، قال انتم السعوديون تعاملون الموت بإيمان عجيب، وربما بقبول استثنائي، حتى في رحيل رجل كبير بحجم استثنائي يمثل الفقيد، وها انتم تدفنون من تفقدون تحت الارض وتؤدون صلواتكم وتعاودون روتين حياتكم من جديد، وكأنه قطار لا يخطئ قضبان سكة الحديد. ورغم صواب ما اشار اليه هذا العجوز، في قبولنا لقضاء الله وقدره لايماننا العميق بان الموت هو الحقيقة الثابتة، التي لا تقبل المساومة، ليس الا محطة على الطريق وليس نهاية الرحلة، ولكن هذه الحادثة تتطلب الكثير من الصبر والايمان، ونحن اذ ندفن فقيدنا اتباعا لكتاب الله وسنة رسوله، الا انه باق في عقول وقلوب مواطنيه بكافة فئاتهم العمرية، بل ان حضوره ورحيله تجاوز المحلية الى الاقليمية والدولية على السواء.

كان الراحل الكبير يستند الى خلفية ثرية ومتنوعة من الخبرات والتجارب، تنامت منذ سن مبكرة وتوليه الحقائب الامنية والتعليمية، اضافة الى توليه الكثير من المهام الخارجية، وفرت له قاعدة استثنائية كرجل حكومة، ولكن ربما كان العنصر الحاضر والمؤثر في دوره الشخصي هو نظرته الثاقبة نحو المستقبل، كحاكم تقدمي وتنموي يحلم بنقل شعبه بسرعة الضوء الى محطات الرفاه والتنمية، التي تتوافق مع ثوابتهم الدينية والتاريخية. اعطى الفقيد العملية التنموية، بكل اوجهها، جل وقته وجهده ورعى الجانب الاقتصادي بكافة جوانبه، والاخير سيظل شاهدا على انه رجل ادى الامانة، فعندما باشر الفقيد اشرافه على دفة الحكم في السعودية، كانت سوق الاسهم مثالا تقليديا لأي سوق ناشئة اقليمية محدودة، وها هو يرحل اليوم وهي على ابواب اكبر عشر اسواق مالية على وجه البسيطة، من حيث القيمة السوقية، وها هو الناتج المحلي يتجاوز 250 مليار دولار كأكبر ناتج قومي في الشرق الاوسط، وها هي ارامكو تتربع على كرسي اكبر شركة نفطية على وجه الارض، وها هي سابك تعزز اسواق العالم كاحدى اكبر شركات البتروكيماويات في العالم، وها هي الجبيل وينبع تقبعان كعملاقين شاهدين على مسيرة احلام صارت واقعا بالجهد والعمل والرؤية الثاقبة، يرحل الرجل قرير العين متى ادى الامانة وحقق الحلم واظن فقيدنا الكبير قد فعل.

الاسواق التي ودعت الفقيد بهبوط حاد، التقطت انفاسها في ذات اليوم لتبايع خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله، مهنئة الوطن بسلاسة انتقال دفة الحكم والانسيابية المثالية لترتيب البيت السعودي من الداخل، مدعومة بروح الاصلاح التي تمثلها قيادة الملك عبد الله.

في مختلف مراحل عمله السياسي والقيادي، عكس الملك عبد الله شخصية شفافة ذات طرح مباشر يتبنى الاصلاح في كافة الاوجه، كان وما زال الهم العربي يتربع على فؤاده، اعطى شعبه الحب بروح صادقة تلقائية فبادلوه بمثله، واجتمعت الاهواء المختلفة على حبه، دخل منازل الفقراء بمديد العطاء، ماسحا لآلامهم فتوحد الشارع السعودي ضد الفقر. الملك الجديد تبنى الشأن الاقتصادي ايضا باهتمام لافت وبفكر بنيوي يهدف الى التعجيل بحركة التنمية ومحاربة الروتين والبيروقراطية، وعكست مخرجات المجلس الاقتصادي الاعلى تحت اشرافه طرحا شموليا يعالج هموم المرحلة الحالية، كما انه رعى شخصيا تنظيم سوق المال واعلان هيئاته الاشرافية، ووجه وما زال بإزالة معوقات الاستثمارات، ودعم التخصيص كإحدى عمليات الاصلاح الاقتصادي.

مصابنا في فقيدنا الكبير لا يسليه عزاء، فهو فقيد شعبه وامته وزمانه، غير ان ما يواسينا انه سلم الامانة لرجل مخلص سخر قلبه لحب شعبه وامته ووضع عقله وجهده لتنمية هذه الارض ومن عليها.

رحم الله الفقيد رحمة واسعة وألهم ابناءه وعموم ذريته الصبر والسلوان وسدد خطى خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله الى ما فيه الخير والصلاح انه سميع مجيب.

كاتب ومصرفي سعودي [email protected]