اتجاه الحكومة المصرية لزيادة الاحتياطات يثير جدلا حول تكلفة القرار

رصيد القاهرة من الاحتياطي تجاوز 20 مليار دولار بنهاية أغسطس الماضي

TT

تجاوز رصيد مصر من الاحتياطيات الدولية العشرين مليار دولار بنهاية شهر اغسطس (آب) الماضي، وزاد الاحتياطي بنحو 4.5 مليار دولار في عام واحد هو 2004/2005 وقارب على الوصول إلى أعلى مستوى كان قد وصله عام 1996 وهو 21 مليار دولار وهو الرقم الذي كان قد تحقق بثمن صعب دفعه الشعب المصري مع موجة الإصلاح الاقتصادي الأولى من عام 91 ـ 95 زمن حكومة د. عاطف صدقي، وقد ظهر خلال الأشهر الأخيرة اتجاه الحكومة الحالية إلى زيادة الاحتياطي من دون النظر فيما يبدو إلى التكلفة، وقد ذهب في هذا المدى إلى حد إصدار سندات دولية لحساب هيئة البترول مضمونة بعقود نفط مستقبلية بقيمة 1.5 مليار دولار، وإضافة الحصيلة إلى الاحتياطيات، ويطرح ما تقدم تساؤلات حول السياسة النقدية الراهنة والعلاقة بين الاحتياطيات وكل من الواردات والمديونية الخارجية وكيفية توظيف أموال الاحتياطي والمرونة التي يتمتع بها صانع السياسة النقدية هنا والرقم المستهدف الوصول إليه كاحتياطي وانعكاس تضخم الاحتياطي على أسعار الفائدة على الدولار، وفي هذا التحقيق محاولة للإجابة، حيث يؤكد إسماعيل حسن رئيس مجلس إدارة بنك مصر إيران ومحافظ البنك المركزي الأسبق أن الاحتياطي النقدي يتكون نتيجة زيادة الموارد بالنقد الأجنبي في المجتمع عن الإنفاق وبالتالي ليس من الضروري أن يكون هناك سقف محدد للاحتياطي وقد حقق ميزان المدفوعات المصري خلال الفترة الأخيرة فائضا كبيرا وصل إلى 3.3 مليار دولار خلال الفترة من يوليو 2004 حتى مارس 2005، ويقاس مدى كفاية الاحتياطي النقدي بصفة عامة بعدد شهور الواردات التي يغطيها وتكون حدود الأمان عند نحو ستة أشهر بينما الاحتياطي النقدي لدينا يغطي حاليا اكثر من عشرة أشهر، فالموارد اكثر من الاستخدامات ونلحظ في الفترة الأخيرة زيادة الصادرات مما أدى إلى زيادة الموارد، والطلبات من النقد الأجنبي، وإن كانت الواردات زادت أيضا إلا أن الطلبات للأغراض الأخرى تراجعت ومنها طلب العملة الأجنبية من أجل الدولرة أو المضاربة ففي الفترة الأخيرة نتيجة للسياسات المتبعة وظروف سوق الصرف، اختفت تماما عمليات الدولرة والتعامل في السوق السوداء وأصبحت كافة المعاملات تتم عبر البنوك.

ويرى د. جودة عبد الخالق أستاذ الاقتصاد وعضو المجالس القومية المتخصصة أن الاحتياطي من النقد الأجنبي حاليا مبالغ فيه جدا ولا ضرورة له فطبقا للقواعد والأعراف الدولية من المفترض الاحتفاظ باحتياطي بما يعادل من 3: 4 أشهر من الواردات، ولكن نتيجة للسياسة الاقتصادية الحالية المرتبطة بتحرير المعاملات الرأسمالية والسماح بدخول وخروج رؤوس الأموال إلى مصر ومنها بدون قيود فمن الوارد ان تخلق الحركة السريعة والكبيرة لرأس المال ضغطا على سعر صرف العملة، وخط الدفاع الأول أمام هذه الضغوط هو الاحتفاظ بكمية كبيرة من احتياطي النقد الأجنبي، فنحن لا نتحدث عن نقد أجنبي يوجه لسداد فاتورة واردات أيا كانت وإنما الاهتمام بزيادة الاحتياطي النقدي بهدف ينطوي على تكلفة مالية واقتصادية للأزمات الطارئة في حالة ما إذا خرجت رؤوس الأموال من خلال البورصة مثلا بمعدلات كبيرة.

ومن ناحية أخرى يرى ياسر الملواني الخبير المالي والاقتصادي والرئيس التنفيذي للمجموعة المالية هيرمس القابضة إنه لا يوجد اهتمام خاص بزيادة الاحتياطي النقدي، لكن ما حدث جاء نتيجة لقوى العرض والطلب وكل دولة تحدد سياستها النقدية المناسبة لها ويعتقد أننا في نتجه ناحية ان يكون لدينا استهداف تضخم inflation target في السياسة النقدية ويلعب حاليا البنك المركزي دورا رئيسا في منطقة دخول السوق كبائع أو مشتر تبعا لهذه الظروف.

ويؤيد هذا الاتجاه إسماعيل حسن قائلا إن ضبط سوق الصرف الأجنبي من أهم مسؤوليات البنوك المركزية في مختلف الدول، وهذا الضبط يتم من خلال ما يتخذه من إجراءات وسياسات، سواء في سوق الصرف أو في سوق المال عموما بما يؤثر على سوق الصرف الأجنبي ومن ضمن الوسائل المشروعة والممارسة للبنوك المركزية التدخل في السوق بيعا أو شراء للنقد الأجنبي ولكن هذا التدخل لا بد أن يكون محسوبا في مقداره وتوقيته وفي حدوده وأسبابه وأيضا مع دراسة نتائجه وفي جميع الأحوال يتعين على متخذ القرار أن يدرس جيدا كافة الجوانب للسوق الذي يتعامل فيه.

ومن وجهة نظر د. جودة عبد الخالق فإن البنك المركزي اتبع سياسة نقدية تتضمن ما يسمى استهداف تضخم بالفعل بمعنى احتواء معدل التضخم أي معدل الارتفاع السنوي في الأسعار وضبطه في حدود معينة، ومن ضمن مصادر التضخم تدعو سعر صرف العملة الوطنية ولذلك يسعى البنك المركزي إجراء وسيط لضمان استقرار سعر الصرف ولاحتواء معدلات التضخم إلى التدخل في سعر الصرف بائعا أو مشتريا للنقد الأجنبي. ولكن قد يفتح هذا التدخل في حالة وجود خلفية من الإضراب في الأساسيات الاقتصادية الأخرى أبواب جهنم ويغذي المضاربات مما يؤدي إلى الفشل غالبا. فتدخل البنك المركزي يجب أن يكون محسوبا بكل دقة، وآخذاً في اعتباره تجارة دول أخرى مفيدة لنا كالمكسيك والأرجنتين.

وإزاء بعد جديد يرى إسماعيل حسن أن معدل النمو عموما ترتبط زيادته بزيادة الاستثمارات وإقامة المشروعات الجديدة التي تتطلب استيراد آلات ومعدلا من الخارج، وبالتالي فإنه من المتوقع مع جهود التنمية وإقامة مزيد من المصانع أن يزداد الطلب على النقد الأجنبي لاستردادها وعندما يكون لدينا احتياطي قوي فإن هذا يمكن القطاعات من استيراد ما يلزمها بما يساعد على زيادة النشاط الإنتاجي.

ويؤكد ياسر الملواني ان الدول إما أن تكون جاذبة لرؤوس الأموال أو غير جاذبة وأن الاقتصاد المصري بدأ الإصلاح في عدة محاور تؤدي إلى نمو السوق من خلال زيادة الاستثمارات، وهذا هو الهدف. ولكن بلا شك فإن وجود احتياطي نقدي كبير يعطي استقرارا، ويحمي البلاد من خروج رؤوس الأموال أو هروبها، كما ان الاحتياطي النقدي لدينا يتسم بمرونة ويمكن أن يرتفع اليوم وينخفض في الغد ولا يمكن القول بأن البنك المركزي مخطئ في تدخله أو بناء احتياطي قوي في هذا الوقت، لأنه لو ترك الأمور دون تدخل يمكن أن تؤثر على سعر الصرف مما ينعكس سلبا على التصدير والسياحة وكل شيء فلماذا لا نبني احتياطيا قويا من ناحية ونخفض الفوائد تدريجيا من ناحية أخرى لتخفيض معدل التضخم وتشجيع النمو وحتى تبدأ عجلة الاستثمار في الزيادة بمعدل أسرع وهذا هو الهدف.

ويكشف د. جودة عبد الخالق أن السبب الرئيسي لدى البنك المركزي للاهتمام بزيادة الاحتياطي النقدي هو إرسال إشارة متكررة مطمئنة وأن سعر الصرف للجنيه المصري يستند إلى وسادة مريحة من احتياطي النقد الأجنبي، لكن المستفيد الوحيد من هذا هم الذين يقومون بتحويل الأموال من الخارج إلى مصر ثم إعادة تحويلها للخارج مرة أخرى للاستفادة من سعر الفائدة الأعلى بكثير من 8 في المائة : 10 في المائة مقارنة بسعر الفائدة الأقل كثيرا في الخارج وهو حوالي 2 في المائة فقط وفي هذه الحالة هناك تكلفة مزدوجة، فأولا يحتفظ البنك المركزي بأموال أكثر مما يستدعيه تحرير المعاملات الجارية وتحريره للمعاملات الرأسمالية ثم يوظف القدر الأكبر منها في أذون الخزانة الأميركية بسعر فائدة متدنٍ للغاية ولا يوظف هذه الأموال التي تعد مدخرات قومية أو يستخدمها لأغراض الاستثمار وخلق فرص عمل وإنما تستخدم في استثمار عقيم كتأمين لحرية دخول وخروج رؤوس الأموال.

وثانيا كما يقول د. جودة فإن الأموال القادمة من الخارج حيث العائد منخفض تعمل ضمن سياسة هدفها لصالح الأغنياء الأجانب وعلى حساب الفقراء المصريين حيث الأخيرين يمولون واقعيا فروق سعر الفائدة التي يجنبها الأجانب.

ويرفض ياسر الملواني هذا الرأي ويقول انه لا يمكن أخذ جزء من الآلية وترك الآلية الأخرى أما عملية الاستفادة من فروق الفوائد فهي موجودة في العالم كله ولا تقتصر على الفائدة فقط وإنما في كل شيء، ولعلاج هذا لا بد من تخفيض سعر الفائدة في مصر خاصة وأنه يوجد لدينا مقومات اقتصادية تسمح بهذا وفي هذه الحالة ستختفي عملية الاستفادة من فرق الفوائد أو ستحدث في حدود ضيقة.

ويعترف إسماعيل حسن بوجود هذه الاستفادة ضمن فروق الفائدة عندما يكون هناك يقين واستقرار من عدم حدوث تغير في سوق الصرف أو تغير في سعر الدولار مقابل الجنيه مثلا وإلا كانت الخسارة كبيرة، ويؤكد أن البنوك المركزية حينما تدير احتياطيها تأخذ في الاعتبار وجود عمليات الأموال الساخنة Hot money وهي الأموال القادمة لاستثمارها لفترة قصيرة للحصول على فرق الفائدة ثم العودة مرة أخرى إلى الخارج، ولكن لا نستطيع ان نقول أن السياسة النقدية لصالح الأغنياء فالسياسة النقدية لا تكون إلا لصالح الاقتصاد وإذا كان الاقتصاد به اختلال فهذا موضوع آخر واحتفاظ البنك المركزي باحتياطي كبير أمر يدعم الاقتصاد الذي يشترك فيه الأغنياء والفقراء.

ويضيف قائلا: إن الاحتياطي النقدي يجب توظيفه بأعلى عائد متاح مع أقل مخاطر ممكنة وتأتي اقل مخاطر ممكنة على حساب العائد، فكلما كانت المخاطر محدودة كلما قل العائد نسبيا وهذه سياسة جميع البنوك المركزية لانها لا تضارب ومن هناك فإن توظيف الاحتياطي لدى البنك المركزي لا يقتصر على الأذون في الخزانة وإنما يتوزع بين أوجه توظيف تحقق له الأمرين مخاطر قليلة وسيولة عالية لكي يستطيع استخدامها عند الحاجة فلا يمكن شراء عمارات أو أسهم شركات بهذا الاحتياطي مثلا وحينما يحتاج إلى أموال لا يستطيع ايجاد سيولة أو تحويلها إلى سيولة بسهولة ولكنه يشتري بها اشياء أمنة سهلة التسييل ومن هنا يوزع توظيفات الاحتياطي لديه على الأدوات التي تحقق له ذلك سواء كان بشراء سندات لحكومات أجنبية التداول عليها نشط أو أذون على الخزانة أو إبداعات لدى البنوك العالمية.. الخ. ويؤكد ياسر الملواني أنه على يقين من أن الاحتياطي النقدي المصري يتم توزيعه على عدة عملات وعدة أوعية استثمارية فالاحتياطي النقدي لا يمكن استخدامه بطريقة فيها مخاطر ومضاربات لأنه احتياطي بلد.

ويرى د. عبد الخالق ان انخفاض أو تدني سعر الفائدة على أذون الخزانة الأميركية يرتبط بعدة اعتبارات تصدر عن المصلحة الأميركية أولا وأخيرا وحينما يتخذ بنك الاحتياطي الفيدرالي (البنك المركزي الأميركي) قرارا برفع سعر الفائدة (اتخذ قرارات على مدى السنة ونصف السنة الماضية بحوالي ربع بنط كل فترة) يأخذ في الاعتبار حالة الاقتصاد الأميركي من كساد أو رواج ومعدلات النمو والبطالة والتضخم وعجز الميزان التجاري والدين الخارجي الأميركي والاستثمارات الأميركية... الخ.

وهي مجموعة من الاعتبارات تعبر عن المصلحة القومية الأميركية وقد لا تتناسب أو تتفق مع المصالح الوطنية للدول الأخرى.

وعن العلاقة بين الاحتياطي والمديونية يقول إسماعيل حسن ان المديونية الخارجية لمصر جيدة وهي في حدود 30 مليار دولار والأهم من حجمها القدرة على خدمتها وجزء كبير من الديون كبير من الديون الخارجية المصرية لآجال طويلة وبالتالي يسدد على فترات طويلة مع أسعار فائدة مميزة نتيجة ما تم الاتفاق عليه في نادي باريس ومن هنا فإن تكلفة خدمة الدين الخارجي محتملة للغاية ويتم أداؤها من خلال فوائض النقد الأجنبي التي تشكل احتياطيا للبنك المركزي ومصانع السياسة النقدية عليه أن يحسب الالتزامات المستقبلية ويعد نفسه للوفاء بها في مواعيدها ومن أهم هذه الالتزامات المستقبلية أقساط فوائد الديون الخارجية لانها محسوبة ومعروف ما مبلغها ومصدرها وتوقيته وكمثال فإن وضع السياسة النقدية لا بد ان يأخذ في اعتباره مثلا أنه في يوليو 2006 سيتم سداد 500 مليون دولار من السندات التي كانت قد أصدرت في عام 2001 ويتحسب لها ليكون ما يلزم لمقابلتها في توقيتها.

ويلفت د. جودة عبد الخالق النظر إلى ان مصر شأنها شأن حوالي 180 دولة في العالم عضو في صندوق النقد الدولي وعليها التزامات ولها حقوق ومن الحقوق ان تلجأ إلى الصندوق للحصول على السيولة لمواجهة الالتزامات الطارئة طبقا للقواعد المقررة في اتفاقية صندوق النقد الدولي وعلينا الإفادة من ذلك بدلا من تراكم الاحتياطي. وهناك خطا في الإدارة الاقتصادية المصرية وهو التسرع أو التعجل بتحرير المعاملات الرأسمالية في ميزان المدفوعات، نظرا لما تمثله حركة رؤوس الأموال من ضغوط محتملة على سعر الصرف وكان لا بد من الاحتفاظ بخط دفاع وهو كمية كبيرة من الاحتياطي النقدي الأجنبي لا علاقة لها بفاتورة الواردات واكبر كثيرا من الاحتياجات لأغراض الواردات، ولو صححنا الخطأ ستقل الحاجة إلى تلك الكمية..

وأخيرا يقول الملواني ان يكون الاحتياطي النقدي نتيجة وليس هدفا فالبنك المركزي ينظر إلى عدة محاور ويدير العملية النقدية في ضوئها ومن الممكن أن يصل الاحتياطي النقدي إلى 25 مليار دولار أو ينخفض إلى 18 مليار دولار حسب الظروف المحيطة بالسياسة النقدية ومن المهم في كل حالة ان يؤدي هذا الاحتياطي وظائفه في إطار تقدم ديمقراطي واستقرار سياسي لتتكامل عوامل جذب المستثمرين.