قطاعا التصنيع والخدمات يسيطران على الاقتصاد التركي الحديث

شعبها ثاني أكبر قوة عاملة في أوروبا.. لكنه الأفقر

TT

بقبول تركيا البدء في مفاوضات الانضمام الى الاتحاد الأوروبي توجهت الانظار مباشرة الى شيئين: أولاً قدرة الاقتصاد التركي على اللحاق بالاقتصادات الأوروبية. ثانياً الاصلاحات السياسية والقضائية التي على أنقرا تحقيقها قبل الانضمام.

وفي هذا التقرير سنهتم بالجانب الاقتصادي فقط. فتركيا ستصبح إحدى أكبر القوى العاملة في أوروبا، وذلك لأن تعدادها السكاني يفوق السبعين مليوناً (يقترب من ألمانيا التي تعتبر الأكبر حالياً)، وهو قطعاً الأصغر سناً. لكن دخل الفرد التركي هو أيضا الأقل في أوروبا. فمتوسط دخل الفرد السنوي في تركيا يبلغ نحو 7000 دولار، أي أقل كثيرا من متوسط دخل الفرد في الاتحاد الأوروبي الذي يفوق العشرين ألفاً، مع ملاحظة طبعاً أن هذا «متوسط» أوروبا وليس حدها الأدنى، فهناك دولٌ في الاتحاد الأوروبي أقرب الى تركيا منها الى ألمانيا. على العموم فإن الاقتصاد التركي راح منذ السبعينات يتبنى نظرية الاقتصاد الحر والسوق المفتوح.

وتمشيا مع هذه النظرية أخذت تركيا تخصخص بعض شركاتها في القطاع العالم، لكنها أيضا احتفظت بجزء كبير من هذه الشركات في أيدي الدولة بحيث أصبح الاقتصاد التركي اقتصادا مختلطاً بين القطاعين العام والخاص. وتمشيا أيضا مع تقاليد ذلك الوقت فقد احتفظت الدولة في أيديها بغالبية مشاريع البنية التحتية ومرافق الخدمات الحيوية والصناعات الأساسية، فضلا عن نحو 30% من القطاع المصرفي. ومع مرور السنوات وتحت ضغوط البنك الدولي وصندوق النقد اللذين كانا يفضلا أن يريا دورا أكبر للقطاع الخاص راحت تركيا تقلل من حجم ودور القطاع العام، خصوصا في مجالي الصناعة والخدمات. كما أن أنقرا بدورها كانت تسعى الى اللحاق بأوروبا رغبة منها في الانضمام الى السوق الأوروبية المشتركة آنذاك. ومنذ الثمانينات أصبح المحرك الأساسي للاقتصاد التركي هو تزايد طلب الاستهلاك الخاص، الذي يشكل الآن 70% من إجمالي الناتج المحلي، مقارنة بنسبة 15% فقط لطلب الاستهلاك العام. كما أن القطاع الخاص أصبح في عقد التسعينات يوفر نحو 80% من رأس المال المطلوب للاستثمار، رغم أن هذه النسبة تراجعت الى 70% بين عامي 2001 و2002. الزراعة

* أما بالنسبة للقطاعات المختلفة وحصصها من إجمالي الناتج المحلي، فيُلاحظ أن الزراعة ظلت تتراجع منذ الستينات مروراً بالسبعينات ثم الثمانينات حتى استقرت الآن عند حدود 15% فقط من إجمالي الناتج المحلي. وبطبيعة الحال، تختلف هذه النسبة من عام الى عام وفق 3 عوامل أساسية وهي: اختلاف الأسعار وتقلبات الأحوال المناخية وانتاج الدول الأخرى المنافسة. فقد بلغت مساهمة القطاع الزراعي في الاقتصاد القومي التركي خلال عامي 2001 و2002 نسبة 12% فقط. لكن الزراعة رغم دخلها المحدود ظلت تستوعب نحو رُبع القوى العاملة من الرجال و60% من النساء العاملات.

الصناعة

* وفي المقابل، تستوعب الصناعة (باستثناء قطاع الانشاءات) 20% من الأيدي العاملة في تركيا بينما تبلغ مساهمتها حوالي 25% من إجمالي الناتج المحلي. وتغلب على الصناعات التركية في السنوات الأخيرة قطاعات النسيج والملابس، وكذلك صناعة السيارات والأدوات الإلكترونية والكهربائية. وفي المقام الثاني تأتي صناعات الأثاث والصناعات الغذائية. كما أن القطاع الخاص له نصيب الأسد في هذه الصناعات. أما قطاع الإنشاءات فقد شكل نسبة 5 الى 6 في المائة من إجمالي الناتج المحلي بين عامي 1995 و2001، وهو بذلك يكون قد تراجع من نسبة 6 الى 8 في المائة التي كان يشكلها في الثمانينات والتسعينات. وقد تراجعت هذه النسبة الى 4% فقط في عام 2002، مما يشير الى أن الصناعات التركية راحت تتجه نحو الصناعات الحديثة على حساب صناعة الإنشاءات التقليدية.

الخدمات

* أما قطاع الخدمات فقد شهد صعوداً كبيراً خلال السنوات العشر الماضية بحيث أصبح الاقتصاد التركي يقترب في شكله العام من الاقتصادات الأوروبية التي يمثل قطاع الخدمات فيها النسبة الأكبر من اجمالي الناتج المحلي. وقطاع الخدمات نفسه في تركيا ينقسم الى أقسام: فالتجارة (بما في ذلك الفنادق والسياحة) تمثل 20% من إجمالي الناتج المحلي، ثم المواصلات والاتصالات تمثل 15%، وأخيراً الخدمات العامة التي تمثل 10%. كما أن قطاع الخدمات يستوعب أكثر من 40% من القوى العاملة التركية.

وبطبيعة الحال تتركز غالبية الصناعات الكبيرة والخدمات الأساسية حول المدن الرئيسية والتجمعات العمرانية الكبيرة. كما أن المدن الأقل حجما لكنها تتمتع بشبكة مواصلات جيدة مع التجمعات الكبيرة أيضا تنتفع بالعمل في المراكز الكبرى. وفي المقابل فقد استحوذ جنوب وغرب تركيا على نصيب الأسد في قطاعي الزراعة والسياحة.

تخطي مرحلة التقشف

* وكان الاقتصاد التركي قد وصل إلى حافة من التدهور في عام 2001 عندما انخفضت قيمة الليرة التركية، وعندما فقد نحو مليوني شخص وظائفهم. واضطرت تركيا وقتذاك أن تلجأ إلى صندوق النقد الدولي للحصول على مساعدات مالية ضخمة، إذ حصلت بالفعل على قروض قيمتها 18 مليار دولار في مقابل الدخول في برنامج موسع للتقشف. كما يعني الاتفاق مع صندوق النقد أن يستمر دعم الصندوق لتركيا في الفترة ما بين عامي 2005 و2007، بينما يتعين على تركيا السيطرة على معدلات التضخم وتبني مجموعة من الاصلاحات الاقتصادية مقابل الحصول على قروض من الصندوق. ويجيز الاتفاق لتركيا تأجيل سداد قروض سابقة تقدر قيمتها بحوالي 3.7 مليار دولار حتى عام 2006. كما وقعت تركيا من جانبها «خطاب نوايا» في إطار الاتفاق العام تؤكد فيه عزمها على تبني اصلاحات اقتصادية طويلة الأمد تشمل القطاع المصرفي والنظام الضريبي، بالاضافة الى ما أشرنا اليه أعلاه. وبالفعل فقد تعافت تركيا من الأزمة الطاحنة التي وصلت قمتها في عام 2001. ومنذ ذلك الوقت تراوح معدل النمو الاقتصادي بين 6 و7 بالمائة، وهي معدلات فاقت توقعات صندوق النقد الدولي نفسه. كما تراجع التضخم من 70% الى أقل من 10 بالمائة في العام الماضي لأول مرة منذ 30 عاما. لكن بالرغم من تحسن النمو الاقتصادي فإن تركيا لا تزال مثقلة بالديون، فضلا عن أن عجز الموازنة لديها ارتفع الى 10.7 مليار دولار في العام الماضي. وبشكل عام فإن اجراءات التقشف الصارمة جنت ثمارها تدريجياً.

يذكر أن الولايات المتحدة، التي تعد أكبر أعضاء صندوق النقد الدولي، تعتبر من أقوى المؤيدين لاستمرار دعم الصندوق لأنقرة، كما أنها أيضا من أقوى داعمي انضمام تركيا الى الاتحاد الأوروبي. وفي هذه الأثناء شهد الاقتصاد نموا بمعدلات متزايدة حتى بلغ 7.9 في المائة في عام 2004. وتصادف خلال العامين الأولين من هذا القرن أن تراجع سعر الليرة، الأمر الذي أضعف الطلب المحلي على السلع التركية، لكنه في المقابل رفع الطلب الخارجي بحيث أصبحت الصادرات التركية تمثل لأول مرة نسبة أكثر من 25% من اجمالي الناتج المحلي. ثم ارتفعت هذه النسبة الى 28.8% في العام التالي. وفي هذه الأثناء شكلت الواردات نسبة 30% من إجمالي الناتج المحلي.

العملة

* وكانت تركيا قد غيّرت عملتها بالتخلص من 6 أصفار من الليرة بحيث أصبحت الورقة النقدية من فئة مليون ليرة تعادل ليرة واحدة جديدة، وذلك أملا في دعم التجارة وتقوية اقتصادها النامي. وقد شهد تغيير العملة نهاية فئة 5 ملايين ليرة والتي لم تكن تكفي سوى ركوب سيارة الأجرة (تاكسي) لفترة قصيرة. كما أنهت أيضا فئة 20 مليون ليرة والتي كانت تعادل 15 دولارا فقط. وكانت هذه الفئات نتاج عقود من التضخم الذي وصل في عام 2001 إلى 70 في المائة. ومنذ ذلك الحين هدأ التضخم وبدأت التوقعات الاقتصادية تتحسن. وبالفعل فقد كان تغيير العملة بمثابة اشارة رمزية الى بداية عهد جديد من استقرار الاقتصاد في محاولة تركيا الطويلة للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. وعلى المستوى اليومي حفز هذا التغيير مزيدا من التجارة الدولية وأدى إلى انهاء التوتر بين المستثمرين الأجانب والأتراك. وفي هذا الصدد قال حينها محافظ البنك المركزي التركي ثريا سردنجكتي إن المرحلة الانتقالية في الليرة التركية الجديدة توضح أن اقتصادنا كسر الحلقة المفرغة التي ظل سجينا لها لمدة أعوام عديدة، مضيفاً أن الليرة الجديدة تعد أيضا رمزا للاقتصاد المستقر الذي حلمت به تركيا أعواما. ولكن يتخوف عددٌ من الاقتصاديين، خصوصا الاتراك، من أن تفشل تركيا في استيفاء الشروط الاقتصادية المطلوبة للانضمام الى الاتحاد الأوروبي بحيث يصبح هذا الفشل ذريعة لهؤلاء الذين أصلاً لا يرغبون في انضمامها لأسباب سياسية أو ثقافية.