بريطانيا تتجه لفقدان موقعها في خارطة أكبر المنتجين للنفط في بحر الشمال

إحصائيات تكشف تدني الإنتاج من 3 ملايين برميل إلى 1.7 في يونيو الماضي

TT

عندما زار وزير الخزانة البريطاني، غوردن براون (وهو الرجل الثاني في الحكومة البريطانية) بعضاً من دول أوبك الشهر الماضي لحثها على زيادة انتاجها، رد عليه القادة العرب بأنه منذ عام 1999 هناك دولة واحدة خفضت انتاجها كثيراً، وأن هذه الدولة ليست عضوا في أوبك، بل هي بريطانيا نفسها. ولا شك أن الوزير البريطاني شعر بالحرج وبصعوبة الرد على نظرائه العرب. فالحقيقة فعلا أن بريطانيا، التي كان انتاجها يضاهي ثاني أكبر منتجي أوبك، اصبحت الآن تعد البراميل الأخيرة من حقولها الأفشور في بحر الشمال الذي كانت تعتبر أكبر منتجيه. وليس هناك دليلٌ أفصح مما أعلنه أخيرا وزير الطاقة البريطاني، مالكوم ويكس، عندما قال إن امدادات النفط والغاز من حقولنا في بحر الشمال انخفضت بأسرع مما كان متوقعاً، وأن أنبوباً سيُمد من النرويج الى بريطانيا لنقل الغاز، لكنه لن يكون جاهزاً للعمل قبل نهاية العام المقبل. وتعليقاً على حديث الوزير قال مايك ويتر، رئيس بحوث الطاقة في بنك «كاليون» الاستثماري، إن السياسيين بدأوا الآن يعون حجم المشكلة لكن الأسواق تعلم منذ فترة أن بريطانيا ستصبح قريبا مستورداً للنفط. وتوضح احصاءات وزارة الطاقة البريطانية أن الانتاج في أغسطس (آب) من عام 1999 كان 3.1 مليون برميل يوميا، لكنه انخفض في يونيو (حزيران) من هذا العام الى 1.7 مليون برميل. ويعزي الخبراء الانخفاض السريع في نفط بحر الشمال الى سبب علمي بحت: وهو أن تكلفة إدارة وصيانة المنصات البحرية (خصوصا في بحر الشمال) عالية للغاية، مما يدفع المنتجين الى الانتاج بالطاقة القصوى لاختصار الوقت، مما يعني بالضرورة نفاد المخزون بسرعة وبشكل يكاد يكون فجائياَ. كما أن حقول الأفشور البريطانية كانت بدأت جميعها الانتاج في نفس الوقت، لذا فقد شارف مخزونها على الانتهاء في نفس الوقت ايضا.

وفي هذا الصدد توقع د. مايكل سميث، من مركز «ملفات الطاقة» البريطاني أن تبدأ بريطانيا استيراد النفط في عام 2007، وأن يصل حجم هذا الاستيراد الى ثُلثي المليون برميل يوميا في عام 2015. وأضاف أن معدل تراجع الانتاج خلال السنوات الماضية بدأ عند 6% ثم تسارعت وتيرته لتصل الآن الى 17%، مؤكداًُ أنه كلما وصل المخزون الى مراحله الأخيرة ازداد معدل التراجع، أي تسارع الانخفاض.

ومن جانبها توقعت وكالة الطاقة الدولية أن يشهد الانتاج البريطاني ارتفاعا محدودا العام المقبل ليصل الى 1.85 مليون برميل يوميا، لكن التدهور سيعود بشكل ملحوظ في عام 2007 عندما يبلغ الانتاج نحو 1.66 مليون برميل يوميا. وعزت الارتفاع المؤقت العام المقبل الى اكتشاف حقل صغير جديد، يُدعى حقل «بوزارد». غير أن وكالة «عمليات الأوفشور» البريطانية أكدت أن تآكل المخزون البريطاني «أمرٌ لا رجعة فيه، حتى وإن كانت هناك زيادات طفيفة من حين الى آخر». كما أكدت الوكالة أنه من شبه المستحيل أن تتم اكتشافات جديدة لحقول أفشور كبيرة أو ذات أهمية انتاجية.

وكانت وزارة التجارة والصناعة البريطاية قد أصدرت عدداً من الرخص للتنقيب عن حقول جديدة، في محاولة أخيرة من الحكومة البريطانية لتعويض التدهور من الحقول القديمة. وبالفعل فقد نجحت هذه الرخص في اكتشاف 8 حقول صغيرة تعتبر بمثابة جيوب ملحقة بالحقول القديمة الكبيرة. لكن خبراء الوزارة أنفسهم يعترفون بأن انتاج الحقول الصغيرة لن يوقف تراجع اجمالي الانتاج لأن الفاقد من الحقول القديمة الأساسية أعلى كثيرا من حجم الزيادة الآتية من الحقول الصغيرة الجديدة.

استيراد الغاز

* تنبه المستهلكون البريطانيون الى مشكلة نفاد نفطهم وغازهم من بحر الشمال لأول مرة هذا العام عندما داهمهم شتاء قارص يعتبر الأبرد منذ عشر سنوات. ومع الاستهلاك الزائد لأجهزة التدفئة لاحظ المستهلكون أن فواتير الغاز التي تأتي الى منازلهم ومكاتبهم أعلى كثيرا من العادة. وبالطبع بدأ التذمر، ومن ثم التقطت الصحافة القضية وحولتها الى تساؤلات حول أصل وأسباب الأزمة. وفي إطار الدفاع عن نفسها قالت شركات الطاقة البريطانية (التي تقدم خدماتها للمستهلكين مباشرة) إنها وجدت نفسها مجبرة على شراء الغاز من المنتجين بأسعار مرتفعة للغاية. وأضافت أن أسعار الجملة للغاز ارتفعت منذ 2003 بنسبة 100%، بينما ارتفعت أسعار بيع التجزئة للمستهلكين بنسبة 40% خلال الفترة نفسها. وبما أن الغاز يستخدم أيضا في انتاج 40% من الكهرباء في بريطانيا فقد انعكس الارتفاع على أسعار الكهرباء أيضا. غير أن منتجي الغاز بالجملة عزوا بدورهم المشكلة الى سبب رئيسي: نقصان الغاز من حقول بحر الشمال، بينما في الوقت نفسه يرتفع الطلب على الاستهلاك. وبالطبع فقد أدى ذلك الى زيادة كبيرة في استيراد الغاز من بعض الدول الأوروبية حيث يرتبط سعر الغاز (لأسباب تاريخية) بسعر النفط الخام التي ظلت المرتفعة منذ فترة. بل إن الأمر تطور أكثر عندما هددت المفوضية الأوروبية، التي ترأسها بريطانيا حاليا، باتخاذ اجراءات لتحرير سوقي الغاز والكهرباء بعدما اكتشفت أن المنافسة في هذين السوقين غير عادلة لأن عددا قليلاً من الشركات الكبرى تحتكر السوق. وكانت المفوضية قد بدأت تحقيقاتها استناداً الى شكاوى شركات الغاز البريطانية.

أثر النفط على الاقتصاد

* على صعيد آخر يقول د. سميث: لقد فقدت بريطانيا منذ عام 1999 نحو 940000 برميل يوميا كمتوسط خلال السنوات الست الماضية. وبما أن سعر البرميل اليوم يتراوح في حدود 60 دولاراً تقريبا (نحو 33.82 جنيه استرليني) فإن خسارة بريطانيا اليومية تصبح 31.7 مليون جنيه استرليني، أي ما يعادل 11.6 مليار استرليني في العام. هذه كلها خسارة فقدتها الخزينة العامة. لكن في المقابل فإن وقع الصدمة قد خف كثيرا نظرا الى الارتفاع الكبير في اسعار النفط الخام قد عوّض الخزينة عن البراميل الناقصة. ففي عام 1999 كان سعر البرميل نحو 20 دولاراً فقط، لكنه اليوم تضاعف مرتين، مما عوّض دخل الخزينة العامة عن انخفاض الانتاج في بحر الشمال. أما على المدى الطويل وعندما تستقر أسعار النفط فلا بد أن تشعر الخزينة العامة بحجم المشكلة.

البديل النووي

* وقد أثارت أزمة الطاقة في بريطانيا موضوعاً حساساً آخر. ففي الأسبوع الماضي طالب اتحاد الصناعات البريطانية، الذي تهتم الحكومة عادة برأيه، بأن تبدأ بريطانيا حوارا قوميا يتعلق بإمكانية العودة الى انتاج الطاقة النووية. ومن جانبه أبلغ رئيس الوزراء توني بلير ـ فيما تبدو استجابة لمناشدة اتحاد الصناعات ـ نواب البرلمان بأنه لا بد من اتخاذ قرارات صعبة قد لا تجد تأييدا شعبياً. وأضاف بلير أنه شخصيا يعتقد أن سد الفجوة في توليد الطاقة في بريطانيا يتطلب حتما العودة الى انتاج الطاقة النووية. وطالب بلير بالبدء في حوار قومي جاد لحل المشكلة قبل عام 2020، وهو الموعد المحدد لإقفال عدد من محطات توليد الطاقة النووية. وكانت بريطانيا، ضمن عدد من الدول الأوربية الغربية قد قررت التخلص من محطاتها النووية في أعقاب حادثة تشيرنوبل الروسية والتي وأثارت ضغوطا هائلة من الرأي العام الأووربي بشأن إجراءات السلامة ومخاطر استخدام الطاقة النووية. غير أن المعارضين من نواب البرلمان لفكرة العودة الى الطاقة النووية تساءلوا لماذا تريد الحكومة اللجوء الى الطاقة النووية ذات التكلفة العالية. لكن رئيس الوزراء رد عليهم بقوله إن مصادر الطاقة البديلة الأخرى (كالطاقة المتجددة) لن تكون جاهزة لسد الفجوة عندما تتوقف محطات الطاقة النووية في عام 2020.