أمن الطاقة الأميركي: اللجوء لبدائل النفط كحل تقني لمشكلة جيوسياسية

هل بدأ مشروع اقتصاد «الطاقة المتطورة»؟

TT

من المنتظر أن يغادر الرئيس جورج بوش البيت الأبيض بعد عامين، ولكن دعوته لوقف الاعتماد على النفط المستورد من الشرق الأوسط ومناطق غير مستقرة في العالم، والتركيز على تطوير بدائل له خلال فترة ست سنوات، ربما تشكل خطوة تاريخية للانتقال نحو اقتصاد طاقة جديد، ان قدر لتلك الدعوة ان يكتب لها النجاح. ولعل الامر لن يتوقف عند تلك التصريحات الطموحة، بل يمتد إلى ضخ الحكومة الاميركية لمليارات الدولارات للأبحاث والمعونات التحفيزية لصنّاع السيارات لتأسيس الطريق نحو ذلك التحول الذي قد ينتهي إلى تصنيع وبيع جماعي لملايين من السيارات التي تعمل بالطاقة الجديدة بأسعار منافسة وتطوير تلك الطاقة لتنافس النفط من حيث السعر والمرونة التسويقية والعملية. ويمكن فقط لعمل من هذا الحجم أن يدفع باتجاه إيجاد طاقة جديدة كبديل استراتيجي للنفط، كما حدث تاريخياً عندما تحولت البحرية الملكية البريطانية لاستخدام النفط كوقود للأسطول البريطاني بدل الفحم. ولكن الوصول لمثل هذه المرحلة يعتمد بشكل أكبر على بقاء أسعار النفط المستورد عند مستوياتها المرتفعة الحالية لوقت غير محدود حتى يبرر التكلفة المرتفعة لبدائله المطروحة حيث أن جدواها الاقتصادية لن تكون مثمرة إلا في ظل أسعار نفط مرتفعة، وبالتالي فإن التزام هذه الإدارة الأميركية ومن يخلفها بمواضيع التحول عن النفط لغيره مرتبطة أيضاً بالدراسات المقارنة لأسعار الطاقة وضمان سلامتها وأمن تدفقها وسهولته مهما كان نوعها. وسوف يتحمل عبء هذا التوجه وتبعاته، سواء بتشجيعه أو وضعه على الرف مرشحي الرئاسة الذين سوف يخوضون السباق الرئاسي الأميركي نهاية عام 2008. وحتى ذلك الحين سوف تظل أسواق الطاقة تترقب التوجه الأميركي وواقعية تطبيقه بالنظر لتطور الظروف السياسية والاقتصادية في مناطق الإنتاج والاستهلاك للنفط حول العالم. ويبلغ حجم ما تستورده الولايات المتحدة الأميركية من نفط الشرق الأوسط، بما في ذلك السعودية والكويت والعراق والجزائر، حالياً حوالي 2.2 مليون برميل يومياً، فيما أن مجموع ما تشتريه من نيجيريا وفنزويلا، وهي مناطق غير مستقرة من وجهة النظر الأميركية، يصل إلى ما يقارب 2.4 مليون، وحسب أرقام وكالة معلومات الطاقة الأميركية من مجموع واردات النفط الأميركية من الخارج. يعني ذلك أن مجموع ما يتطلب تعويضه أو استبداله أميركياً من النفط الخارجي حسب تصريحات الرئيس الأميركي بوش الأخيرة حول استيراد النفط من الشرق الأوسط ومناطق غير مستقرة يصل إلى 75 في المائة من مجموع 4.6 مليون برميل في اليوم تقريباً وهو قريب من نصف كمية النفط الخام المستورد أميركياً في اليوم بدون حساب الغاز الطبيعي الذي تستورد الولايات المتحدة الكثير منه من الجزائر وقطر وعمان. ويتوقع محللون أن اللجوء إلى الجار الشمالي، ربما هو الحل حتى تطور التكنولوجيا البديلة، ولكن الرمال النفطية الكندية والتي توفر لكندا مخزونا ضخما من النفط لا يمكنها الاستفادة منه عند انخفاض الأسعار، حيث أن تكلفة إنتاج البرميل من هذا النفط تصل إلى حدود الـ(40 ـ 45) دولار، وبالتالي فإن بيعه لن يكون مجدياً إلا عند وصول سعر البرميل فوق الخمسين دولار.

الحديث الأميركي بخصوص الاستغناء عن نفط الشرق الأوسط واللجوء لبدائل النفط ليس بالأمر الجديد، ولكن الجديد فيه وربما والمفاجئ هذه المرة أن مصدره كان الرئيس جورج بوش وهو الرجل الذي عرف بأنه يأتي من خلفية مرتبطة بشركات النفط عندما كان حاكما لولاية تكساس النفطية، وهو رجل عمل قبل دخوله عالم السياسة في مجال النفط، وكذلك الغالبية العظمى من موظفي إدارته الرئيسيين بدأً من نائبه، تشيني ومروراً بوزير دفاعه، رمسفيلد، ووزيرة خارجيته، رايس. ويعد هذا التوجه الذي نادى به الرئيس أخيراً انقلاباً على التوجه الذي كانت تتبعه إدارته بخصوص الطاقة والنفط وأمنهما. ربما يكون الذي دفع الرئيس للحديث عن هذا التوجه الاستراتيجي في نظرة الإدارة الأميركية لموضوع «أمن الطاقة» وفي هذا الوقت بالذات، انتقالاً من فكرة توسيع الانتاج المحلي (الأميركي) ومساعدة نمو الإنتاج العالمي وضمان أمن امداداته، إلى التوجه الحالي لتخفيض استهلاكه محلياً وإيجاد بدائل له، ربما يعود إلى عدة أسباب من بينها تطورات الأوضاع الأمنية في العراق في جانب توسيع وضمان الإمدادات الخارجية. ولكن احتلال العراق فشل من الجانب النفطي على الأقل في تحقيق الزيادة المرجوة في الإنتاج العراقي أو في تأمين منشآته وخطوط إمداداته إلى الخارج في وقت نما فيه الطلب العالمي على النفط من الصين والهند متزأمناً مع تباطؤ في معدلات الإنتاج العالمية بما أشعل شكوك سوق النفط في إمكان مواكبة الإنتاج للطلب على النفط مستقبلاً، وجعل الذعر يبث في السوق خلال أي أزمة تطال أي قطاع من قطاعاته. وبالتالي استمرت أسعار النفط الخام مرتفعة في السوق الدولية، ولا يمكن للمواجهة المحتملة بين الولايات المتحدة وإيران النفطية بخصوص الموضوع النووي إلا أن تدفعها إلى ارتفاعات جديدة.

وفي حال استمرار الوضع الأمني المتردي لإمدادات النفط النيجيري الذي يزود أميركا حالياً بـ(1.13) مليون برميل يومياً على حاله أو تفاقمه، واستمرار الخلاف الحاد والعلاقات المتوترة بين الإدارة الأميركية الحالية ورئيس فنزويلا التي تمد بلاده الولايات المتحدة بـ(1.23) مليون برميل يومياً، فإن وضع الواردات النفطية الأميركية يبدو فعلاً مثيراً للقلق. ورغم أن إيران لا تصدر النفط مباشرة إلى الولايات المتحدة إلا أن أي تعطيل للإمدادات الإيرانية لسبب أو لآخر، سوف يبعث صدمة داخل السوق الدولية المعطشة ويدفع الأسعار ربما إلى مستويات تاريخية جديدة، وقد بدأت اليابان، أكبر مستوردي النفط الإيراني في استشعار الخطر المحتمل بقرار تخفيض الاعتماد على نفط إيران بنسبة 15 في المائة.

ولكن الإدمان الأميركي للنفط الذي تحدث عنه جورج بوش سواء خلال خطابه عن حالة الاتحاد، أو بعد ذلك رداً على تلميحات إيرانية بإمكان تعطيل واردات النفط، موجه على الأغلب لطريقة الحياة التي يعيشها الأميركيون من حيث الاستهلاك للطاقة التي تولدها محطات الكهرباء ومحركات السيارات والتي تترجم بالأرقام إلى أن أقل من 5 في المائة من سكان العالم، (وهم سكان الولايات المتحدة)، يستهلكون أكثر من 25 في المائة من مجموع الطاقة التي ينتجها العالم أجمع. والأرقام تدل على أن الإدمان الأميركي هذا، فيه الكثير من الإسراف والتبذير حتى بالمقاييس دولة صناعية كبرى، ويتمتع شعبها بوضع اقتصادي مريح نسبياً. ولكن الإسراف يأتي في أشكال عدة، منها، على سبيل المثال لا الحصر، نوع السيارة المفضلة لدى الأميركيين اليوم ومنذ بداية عقد التسعينيات من القرن الماضي وهي السيارات الكبيرة ذات الدفع الرباعي التي باتت تعرَف بسيارات (SUV) وهي سيارات تستهلك الوقود بشكل كبير، وصنعت أصلا لتعمل في المناطق الوعرة وصعبة التضاريس، ولكنها باتت السيارة المفضلة حتى داخل المدن. ولكي تتغير هذه العادات الشرائية في أميركا، يجب إيجاد دافع قوي ومؤثر لمثل هذا التغيير عادة ما يكون له علاقة بـ«جيب» المستهلك. ومما يفاقم مشكلة من هذا النوع، هو أداء محركات السيارات في السوق الأميركية عموماً والتي تهدر 80 في المائة من الغازولين الذي يمر عبرها حيث أن الطاقة التي تحرك العجلات فعلاً لا تتجاوز 20 في المائة من كمية الغازولين التي يحرقها المحرك. وما يساعد الأميركيين على الإستمرار في هذا النهج المسرف في وقود ونوع السيارات التي يستخدمونها دون مبالاة كبيرة بالتكلفة المادية التي تصاحبها مقارنة بمناطق صناعية أخرى في العالم مثل أوروبا واليابان، هو أسعار الغازولين المنخفضة نسبياً نتيجة عدم فرض ضرائب مرتفعة في الولايات المتحدة كما في اليابان أو أوروبا.

ومن هنا تأتي الرؤية التكنولوجية بدل الرؤية الجيوسياسية لحل معضلة أمن الطاقة في أميركا ضمن حديث الرئيس بوش الأخير بتشجيع الاتجاه نحو «تغيير نوع الطاقة الذي تستعمله سياراتنا»، اشارة الى اهمية التحول من النفط الى بدائله من الطاقة المتجددة، مثل الكهرباء، او الهايدروجين، او غاز الميثانول من الذرة وشرائح الخشب والحشائش. وقال ان «هدفنا هو ان تصبح هذه البدائل عملية ومنافسة خلال ست سنوات». وأشار بوش الى ان الولايات المتحدة صرفت من أجل تحقيق ذلك، خلال الخمس سنوات الماضية، عشرة مليارات دولار لتطوير بدائل طاقة نظيفة ورخيصة. وأعلن انه ينوي الاستمرار في هذه الجهود، وسمى ذلك «مبادرة الطاقة المتطورة»، لزيادة ابحاث ومبادرات الطاقة البديلة بنسبة 22 في المائة. ولكن خبراء في مجال الطاقة يشجعون هذا الاتجاه ولكنهم يختلفون حول امكانية تحقيقه في أقل من عقد أو عقدين من الزمان فضلاً عن ست سنوات خاصة وأن الانتقال من نوع وقود لآخر لا يحتاج فقط للوصول إلى التكنولوجيا القابلة للعمل والمنافسة العملية على الطريق فقط، بل يجب أن تنافس سعر الشراء مع السيارات الموجودة حالياً. ويتطلب ذلك أيضاً تجاوز تحديات كبيرة مثل توفير بنى تحتية خاصة بالتعامل مع الوقود الجديد من حيث الإنتاج والنقل والتخزين والتوزيع.

وفي هذا السياق، اشار تقرير حديث صدر عن البيت الابيض، الى ان في الولايات المتحدة يوجد 250 مليون سيارة، بمعدل سيارة واحدة لكل شخص، كبير وصغير. ومن المتوقع ان يشتري الاميركيون 17 مليون سيارة خلال العام الحالي. لكن التقرير حذر من أن تحول الاميركيين الى سيارات تستعمل انواعا بديلة من الطاقة «سيستغرق وقتا طويلا» هذا من وجهة نظر السيارات والمركبات، ولكن الأميركيين مسرفون أيضاً في استهلاكهم للطاقة الكهربائية، حيث يستهلك الفرد حسب إحصائيات عام 2003 في الولايات المتحدة 12.362 كيلوواط مقارنة بـ6.192 كيلواط يستهلكها الفرد الألماني، و5.726 كيلواط للفرد البريطاني، 1.996 أو حتى مقارنة المعدل العالمي للاستهلاك الفردي الذي يبلغ 2000 كيلواط. ولذلك فإن الحديث بالنسبة للطاقة الكهربائية خاصة في ظل ارتفاع أسعار الغاز الطبيعي، بدأ يشجع توجهات كانت غير مقبولة حتى وقت قريب في الولايات المتحدة من قبيل إعادة إحياء انتاج الكهرباء بطريق التكنولوجيا النووية. الطاقة النووية مغرية دون شك كبديل لإنتاج الطاقة الكهربائية لأنها تعالج أيضاً قضية أخرى ليس لها علاقة بجيوسياسية الهيدروكربونات، وهي ذات علاقة بمضمون اتفاقية «كيوتو» وإلتزاماتها من حيث كمية الانتاج الكربوني المسموح به لكل دولة وتأثير ذلك على البيئة. ورغم أن الولايات المتحدة انسحبت من اتفاقية كيوتو، إلا أن هناك ضغوطا شعبية ودولية مهتمة بموضوع الاحتباس الحراري تضغط في اتجاه اقتصاد طاقة جديد يعتمد على وقود نظيف لا ينتج الكثير من الكربون. ومع أن هناك عدة محاولات ناجحة لتوفير تكنولوجيا تساعد على ترشيد الاستهلاك والوقود قامت بإنتاجها قطاعات عدة وبعض الولايات الأميركية منفردة مثل ولاية كاليفورنيا، إلا أن هذه الخطوات بقيت معزولة عن التوجه العام ووصل بعضها إلى نوع جديد من الفشل في ظل مقاومة سياسية قوية من «لوبيات» صناعات الفحم والنفط والسيارات.

كذلك أفرغت بعض عادات الاستهلاك الأميركية المسرفة التقدم التكنولوجي من مضمونه، حيث أن محركات السيارات التي تم تطويرها عبر تكنولوجيا الحرق الداخلي لتسير مسافة أطول بكمية وقود أقل المستهلك الأميركي لاستخدام سيارات أضخم وأسرع تستهلك وقوداً بكميات أكبر. ولكن نجاح الولايات المتحدة كسوق ضخمة وكرائدة للدول الصناعية في تقليص اعتمادها على النفط في إنتاج الطاقة والوقود للسيارات إن حدث، من المتوقع ان يكون له تداعيات كبيرة حول العالم ولن يقتصر تأثيره على أميركا وحسب، بل ربما يؤسس لتوجه صناعي دولي يمثل الانتقال إلى اقتصاد طاقة جديد كاليوم الذي تحول فيه العالم من استخدام الخشب كمصدر رئيسي للطاقة إلى الفحم، ومنه إلى النفط بعد ذلك. مثل هذه الأحداث التاريخية تكلف الكثير وتؤثر على مسار عجلة الاقتصاد الدولي إن حدثت دفعة واحدة ودون تدرج، خاصة عندما تفقد البنى التحتية للنفط قيمتها وعملها فجأة. وتشكل استخدامات الطاقة هيدروكربونية المنشأ حول العالم حالياً أكثر من 85 في المائة من الطاقة المنتجة، فيما توفر الطاقة البديلة مجتمعة ما لا يزيد عن 8 في المائة، 7 منها توفرها الطاقة الهيدروليكية. ولا يزال ما يقارب ملياري فرد حول العالم بدون طاقة كهربائية من أية مصادر، ويستخدم 1.5 مليار منهم الخشب وروث الحيوانات كمصدر للطاقة عند الإنارة أو التدفئة والطهي في كل من إفريقيا وأميركا الجنوبية وشرق آسيا. وبالنظر لمستقبل الطاقة في مناطق حول العالم مثل الهند والصين في ظل الاتجاه الأميركي الجديد، فإن الاقتصاد هناك ينمو بشكل كبير ومعه ينمو استهلاك الفرد للطاقة خاصة عندما يبدأ معدل استهلاك الهنود والصينيين للكهرباء بالزيادة، ويتجهون لشراء المزيد من السيارات.

ويعتقد خبراء في مجال الطاقة أنه لا يمكن الانتقال من اقتصاد النفط إلى اقتصاد طاقة بديلة يقل فيها تأثير النفط دون العبور على جسر الغاز الطبيعي. هذا على المدى البعيد، ولكن على المدى القصير، فإن أي تخفيض للاستهلاك الأميركي للنفط المستورد، سيقلل غالباً من ضغط الطلب في سوق النفط ويعطي الدول المنتجة فرصة زمنية أكبر لتوسيع إنتاجها، كما يعطي الدول النامية بقوة مثل الصين والهند فرصة لمواكبة نموها في ظل طاقة متوفرة ومعتدلة الثمن الشرق الأوسط وتلك المناطق التي تريد الولايات المتحدة الاستغناء عنها مثل فنزويلا ونيجيريا. وما يعزز فرضية هذا الاتجاه، هو محاولات الانتشار الصيني الحالية في دول الإنتاج النفطية والاتفاقات والعقود التي تم توقيعها في الفترة الأخيرة بين شركات نفط صينية تريد الدخول إلى سوق أميركا الجنوبية وأفريقيا. وتشير دروس تاريخ الطاقة إلى أن التحول إلى مصدر طاقة جديد، على الأغلب سوف يعيد رسم خرائط الإنتاج والاستهلاك والتوازنات الجيوسياسية في العالم.