شعار رمضاني: إن خلص الفول أنا مش مسؤول

حتى باعة الكشري يجدون ضالتهم فيه خلال الشهر الكريم

يطهى الفول بطرق مختلفة، مع البيض والطماطم ويأخذ احيانا اسمه من اسماء بعض المناطق (تصوير: عبد الله السويسي)
TT

كما يحدث كل يوم، وقبل الساعة الرابعة فجرا بقليل، يجهز عم رمضان، كما يطلق عليه زبائنه، نفسه وعربته الصغيرة، التي تتوسطها قدرة فول، للخروج، بحثا عن رزقه، يمسح بعض الغبار على العبارة المكتوبة على العربة «إن خلص الفول، أنا مش مسؤول» قبل أن يدفعها أمامه ليقف بها في مدخل الشارع الذي يسكنه، في منطقة الخيامية بمصر الفاطمية، مستقبلا نسمات الفجر، وواضعا مقعدين صغيرين وطاولة بجوار العربة، ومستعدا لاستقبال أوائل زبائنه الذين يأتونه بملابس النوم وهم لا يزالون يطاردون بقايا النعاس من أعينهم.

ويقول عم رمضان إنه يحب تلك اللحظات، لأنه يشعر بمسحة روحانية في تلك الساعات الصباحية، ويضيف انه في الأيام العادية يستقبل زبائنه العائدين من صلاة الفجر، قبل أن يبدأ الموظفون بتناول وجبة الإفطار قبل التوجه إلى عملهم.

لكن شهر رمضان سيغير عادات عم رمضان، الذي يبدو سعيدا لتوافق اسمه مع اسم الشهر الكريم، وينزل إلى الشارع بعد صلاة العصر، حيث يتوافد المئات عليه لشراء طبق فول، الذي يكون طبقا رئيسا في وجبة الإفطار للعديد من العائلات المصرية. ويضيف «لكن زبائن ما بعد الإفطار أكثر»، فهو يعود إلى بيته بعد الإفطار ليستعد للنزول مرة أخرى بعد الساعة العاشرة مساء، ويستمر في العمل حتى مدفع الإمساك، معتبرا أن زبائن السحور أكثر «فالناس لابد أن يتسحروا بالفول» الطبق الوحيد الذي يستطيع أن «يسندهم طوال اليوم» على حد قوله. لكن المنطقة التي يبيع فيها عم رمضان الفول طوال العام، تمتلئ في شهر رمضان بباعة آخرين، وهو يعتبر ذلك من قبيل «بركة رمضان»، مضيفا أنه «لا يوجد أحد لا يتسحر بالفول، ولذلك فالكثيرون من العاطلين يستغلون الشهر الكريم للكسب» ليس هذا فحسب، فهناك باعة آخرون يغيرون نشاطهم في رمضان للعمل في هذا المجال، مثل باعة الكشري الذين يقل الإقبال على وجباتهم الشهيرة، فيقرر بعضهم العمل في بيع الفول. وفي شهر رمضان يزيد العمل، «فبدلا من أن أقوم بعمل قدرة فول واحدة، أقوم بعمل قدرتين، وأحيانا ثلاثا، والحمد لله برغم زيادة باعة الفول، فهناك رزق وفير».

ويعرف من عاش في مصر أهمية طبق الفول بالنسبة للمصريين، ويعرف أكثر قيمته الرئيسية لهم في شهر رمضان، على الرغم من السخرية التي تحيط بهذا الطبق الذي رغم ان الكثير من شعوب المنطقة تتناوله كجزء من اطعمتها الا انه اصبح مقرونا بمصر، واصبح موضوعا دراميا في مسرحها. في مسرحية «المتزوجون» الشهيرة يسخر الفنان سمير غانم من طبق الفول يجعل منه مادة للضحك.

الاستهلاك الكبير للفول دفع بعض الدول الأجنبية التي تقوم بزراعته لتصديره خصيصا لمصر. ويعتقد عم رمضان ان الكثير من الناس لا يعرفون القيمة الغذائية للفول، لكنه طبق رخيص، يناسب الفقراء، ويعتقد انه غني بالبروتينات ويصلح أن يكون بديلا للحوم، كما يساعد على احتمال الجوع، وربما لذلك يسميه المصريون «مسمار البطن» و«لحمة الفقير».

طبق الفول ليس حديث العهد، فقد أثبتت الرسومات على جدران المعابد الفرعونية أن المصريين القدماء كانوا أول من عرف الفول خاصة مع ما يضاف اليه من ثوم وبصل. فقد كان الفراعنة يقدسون الثوم ويبتلعونه ويحرمون مضغه، تكريماً له، حتى أن النقوش المحفورة على معابدهم، تذكر أن فصوص الثوم كانت توزع على العمال أثناء عملهم، حتى تعطيهم قوة وتحفظهم من الأمراض فهو دواء ساحر للكثير من الأمراض.

ويكثر في رمضان عدد باعة الفول، فعلى كل ناصية ثمة بائع فول، يبدأ عمله قبل مدفع الإفطار بساعة، ويستمر بعد الإفطار حتى مدفع الإمساك فجرا.

عصام القادم من إحدى محافظات الريف، والذي يعيش في منطقة «فيصل» شبه الشعبية، والذي كان عاطلا عن العمل، وجد في شهر رمضان فرصة طيبة للعمل على عربة فول، ويقول «لست وحدي، هناك العشرات في كل شارع يعملون في بيع الفول في رمضان فقط» والسبب في رأيه «أن رمضان شهر كريم يرزق الناس فيه من حيث لا تحتسب»، ويضيف «كل الناس في رمضان تحب أن تتسحر فول، وبالنسبة للفقراء، فهو أرخص شيء». ويعتقد عصام أن التكلفة للبدء في العمل ليست كبيرة ولذلك فهناك إقبال عليها، «كل ما عليك هو أن تشتري قدرة، وعدة كيلو جرامات من الفول، بالإضافة للوازم الأخرى مثل البصل، والمخللات والطماطم ليس اكثر». ورغم أن المصريين يجيدون تدميس الفول في المنازل إلا أنهم يفضلون شراءه من العربات، والسبب في رأي عصام «خلطة التوابل، ولكل بائع خلطة مميزة، قطرة من الزيت الحار، وقطرة من الطحينة، وخلطة الشطة والملح والكمون، وغيرها من أسرار المهنة».

ويتفنن المصريون في عمل أنواع مختلفة من الفول، واصبح الطبق مربوطا ببعض الأماكن، مثل الفول الاسكندراني والفول الدمياطي وغيرهما. لكن أشهر أنواع الفول عند المصريين، هو الفول بالطحينة، والفول بالزيت الحار، وبزيت الزيتون، وبالسمن، والطماطم، والبيض، بل أن هناك ابتكارات أضافتها محلات الفول الكبرى مثل الفول باللحمة المفرومة. ولا تتوقف أهمية حبوب الفول عند المصريين باستخدامه في الطبق المدمس، فمنه تخرج أكلات أخرى شهيرة مثل البصارة والفلافل. وتوجد في مصر بعض المطاعم الخاصة بتسوية الفول، والتي يطهى فيها آلاف القدر يوميا بالدفن في الرمال والرماد، وعادة ما يتعامل معها الباعة الجائلون، وتنتشر في منطقة المقطم والجبرتي، وهم يرون أن هذا سبب في النكهة الخاصة بالفول.

«رمضان كريم جدا» هكذا يقول عم رمضان وهو يستقبل الشهر الكريم بقدور الفول، وهو يقف على عربته وينادي نداءه الشهير في سعادة «إن خلص الفول أنا مش مسؤول».