أفغانستان تطعم أهل واشنطن خبز «النان»

أميركيون يقبلون على الأكلات الحارة بمطعم أفغاني في قلب واشنطن

عامل يعد خبز النان («الشرق الاوسط»)
TT

يقف الناس صفوفاً في بهو العمارة التي تقع في قلب واشنطن في انتظار وجبة شهية من مطعم «كابوب غريل». المطعم يوجد في بناية تطل على شارع إف، على مرمى حجر من البيت الابيض. وحتى لا تختلط على الزبائن الاميركيين اسماء الأطباق التي تطلق عليها اسماء افغانية، وجميعها مشتقة من كلمة «كباب» وتتشابه كثيراً، فهي مرة «كابوب» ومرة «كابوديا» وتارة «كبكب»، اختار المطعم أسلوباً بسيطاً ليعرف الزبون ماذا سيأكل بدلاً من ان يطلب شيئاً ويحضر له النادل شيئاً مختلفاً، حيث يتقدم الزبون نحو صندوق الدفع الذي توجد فوقه صور لجميع الاطباق، وفي الصورة تبدو واضحة مكونات الطبق وسعره. وعلى كل طبق رقم خاص، لذلك يكتفي الزبون برقم الطبق. الوجبات تناسب صغار الموظفين في الشركات والادارات والمتاجر الكبرى التي تحيط بالمكان، وهي أسعار معقولة تتراوح ما بين ستة الى عشرة دولارات. بعد دفع ثمن الوجبة يتقدم الزبون ببطاقة عليها رقم الطبق الذي طلبه.

ثمة فتاة حلوة المبسم، تدعى «نانسي» تتحدر في الاصل من السلفادور، هي التي تجهز الاطباق امام أعين الزبائن، يساعدها على ذلك ثلاثة من عمال المطعم، وهم جميعاً من دول اميركا اللاتينية (هسبانك) تعرفهم بقاماتهم القصيرة وميلهم الى البدانة. تضع نانسي المشويات سواء كانت لحماً أو دجاجاً او خضراوات فوق كانون كهربائي، حيث لا مجال للفحم داخل هذه البناية الفخمة والضخمة في آن واحد. ثم بعد ان ينضج الشواء تسألك هل تريد «النان»، وهو خبز يُطهى أمامك في موقد على شكل زير فخاري كبير، الخبزة على شكل بيضاوي، ويتم تخريمها فوق كرة تخرج منها عيدان صغيرة. وجبة الشواء توضع في قضبان خشبية وبين كل قطعة لحم او دجاج، هناك مستديرة من البصل أو الطماطم. وتحيط بقضبان اللحم زبادي على جنبات الصحن، اضافة الى سلطة الخس الاخضر، في حين توضع المشويات فوق أرز ناصع البياض رشت فوقه شرائح جبن أحمر. ومن أجل متعة العين، توضع حبة طماطم مشوية من حجم متوسط في أحد اطراف الصحن.

شرائح اللحم او الدجاج قبل وضعها فوق الكانون الكهربائي تغمس في بهارات بلا حصر مزجت بالزيت. وعلى الرغم من ان مذاق الاكل حار، فإن نانسي تسألك هل تريد مزيدا من المواد الحراقة، واذا كنت ممن يتلذذون بالمذاق الحار، فإن هناك علبا بلاستيكية صغيرة معبأة بمواد حراقة خضراء او بيضاء اللون، يصعب التكهن بمكوناتها، والواضح انها «خلطة افغانية» خالصة، تفتح الشهية لمن لا شهية له. يعتمد المطعم على الاطباق الاربعة الاكثر تداولاً في افغانستان. اللحم (الضأن والبقر)، واللحم المفروم (الكفتة)، والدجاج، والخضراوات. والاطباق الاربعة تدخل في إطار مطبخ المشويات.

ذلك اليوم وجدنا «ازايبا»، وهي فتاة في مقتبل العمر، كانت تنتظر دورها للحصول على طبقها الافغاني. منظر شعرها المنكوش الذي يشبه تلك الشجيرات التي تنبت في الصحاري، بدا متناقضاً تماماً مع المكان. تقول ازابيا «احضر الى هنا يومياً لتناول وجبة الغداء.. هذا الاكل مذاقه طيب، وهو يشبه كثيراً بعض اكلاتنا».

لكن من أين انت؟

أنا اثيوبية عشت في العاصمة الكينية نيروبي، حيث كنت اعمل في شركة اعلانات تلفزيونية وهاجرت الى هنا قبل خمس سنوات.

ازابيا تعتقد ان هناك شيئاً في المطبخ الافغاني، يشبه المطبخ الاثيوبي. قطعاً هناك اشياء اخرى تتشابه فيها اثيوبيا مع افغانستان، لكن واشنطن جعلت هذه الفتاة القادمة من الهضبة الحبشية، تجد ما يغري في أكلات قادمة من الجبال الافغانية. ولعل من بين المفارقات أن هذا المطعم لا يوجد من بين زبائنه افغان، إذ إن معظمهم من الاميركيين او من جنسيات اخرى تقيم في واشنطن على غرار ازابيا.

لم يكن الغربيون يعرفون المطبخ الافغاني على نطاق واسع، بيد ان بريطانية تدعى هيلين سابري من مدينة يورك عملت دبلوماسية في السفارة البريطانية في كابل في الفترة ما بين 1970 الى عام 1980، ألفت كتاباً بعنوان «الأكل الافغاني» يباع عن طريق موقع «امازون» على شبكة الانترنت لفت الانتباه. عملت سابري في كابل ويبدو أن عشقها للبلاد لم يقتصر على المطبخ الافغاني، بل امتد الى الافغان أنفسهم، حيث تزوجت في نهاية المطاف مهندسا افغانيا. تقول سابري «كانت افغانستان هي خطوتي الاولى لاكتشاف المطبخ العالمي، وتحركت عواطفي عندما بدأت بالمطبخ الافغاني، بدت لي البلاد في موقعها بين الشرق الاوسط وجنوب شرقي آسيا، واكتشفت ان الامر ينطبق على مطبخها».

وتزيد قائلة «كنت ادعو الكثيرين إلى العشاء واقدم لهم وجبة داستارخان الذي يعد تاج المائدة الافغانية ويقدم مع خبز النان، وهو يختلف عن خبز النان الهندي».

الواضح ان المطبخ الافغاني استفاد من وجود بلاد تقع عند تقاطع ثقافات متعددة. ثقافة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى، وشبه القارة الهندية والشرق الاقصى. وهكذا من مفارقات الأكل وتنوعها في هذا العالم جعل مطعماً افغانياً المكان المفضل لأميركيين شغوفين بكل ما جديد ومثير في قلب واشنطن، ولم تعد افغانستان بالنسبة لهم هي البلد الذي يعرف فقط الآن عبر «الحروب» ونبات «الخشخاش»، الامر الذي جعلها أكبر مصدر للمخدرات. الآن ثمة اميركيون يعرفون افغانستان ايضاً عبر مشوياتها ومذاقاتها الحارة جداً.