«ميزون بيرتو».. الأناقة في البساطة

المعدة تعشق قبل العين أحيانا

Maison Bertaux غريك ستريت Greek Street لندن W1D 5DQ مواعيد العمل: من 9 صباحا الى 11 مساء من الاثنين إلى الأحد
TT

لا تزال لندن تتربع على عرش تقديم الشاي ولو أنها عاصمة دولة لا يزرع الشاي فيها، فتقديم الشاي عند الساعة الخامسة بعد الظهر تقليد قديم انفردت به بريطانيا، وعلى الرغم من الكوزموبوليتانية التي تميز لندن عن باقي عواصم العالم إلا أنها لا تزال محافظة على هذا التقليد مع بعض التعديلات البسيطة.

ففي الماضي كان يحرص البريطانيون على تناول الشاي في فترة ما بعد الظهر، وكان يتم تقديم الشاي مع قطع صغيرة من الحلوى لا سيما في صالونات الشاي الراقية وفي القاعات الرئيسية في الفنادق، غير ان هناك بعض التعديلات التي طرأت على هذا التقليد واصبح الانجليز يستبدلون كوب الشاي العزيز على قلوبهم بكوب من القهوة وفي جميع اوقات اليوم، من دون التقيد بوقت محدد، وأصبح البريطانيون من أنصار التوجه الى محلات «ستارباكس» التي اكتسحت الساحة البريطانية وجلبت معها من موطن منشئها الاميركي، نظرة جديدة لمستقبل الشاي والقهوة واصبح لهذا النوع من المشروبات نكهة مطعمة بما يسمى بالـ «ستايل» المعاصر.

غير ان هناك مكانا لم تصل إليه يد التغيير والتطوير، لا بل استمد استمرارية نجاحه من ديكوره البسيط ، وبتعبير آخر «القبيح» إنه مكان صغير يقبع في شارع Greek Street في منطقة «سوهو» في قلب لندن ، فتخيل نفسك تحتسي الشاي أو القهوة في مكان لم يعرف الصباغ طريقا لجدرانه منذ تأسيسه عام 1871 إلا بشكل سطحي جدا، فشهرة هذا المحل الذي يعتبر معلما من معالم «سوهو» جاءت من نوعية المأكولات والحلويات والشاي والقهوة التي يقدمها هذا المكان الصغير الذي يضم طابقا أرضيا وآخر علويا، وليس هناك سجاد على أرضيته، ولا تجمل جدرانه الالوان الجذابة ولا حتى اللوحات التي تعكس صناعة الحلويات الفرنسية التي ينفرد بها Maison Bertaux.

هناك قصص عديدة يرويها كل من واكب مسيرة المحل منذ عشرات السنين، فيقول رجل بريطاني كان يشارك زوجته طاولة صغيرة في زاوية المحل في الطابق الارضي قرب البيانو الاسود القديم الذي لا شك انه نسي نغماته، إنه كان من سكان وسط لندن، وأول زيارة له لـ «بيرتو» كما يسميه كانت منذ 35 سنة عندما التقى بزوجته، ووصف زيارة هذا المكان بالادمان، وقال: إنه توجد أماكن راقية جدا في لندن تقدم الشاي والقهوة والحلويات مثل «بول و فاليري» إنما لا يمكن مقارنة أي مكان لبيرتو، فبساطته تجعل منه محلا مميزا يقصده الناس يوميا، ففي المساء يتحول الى شبه مسرح صغير، تنطلق فيه اغاني المبتدئين الباحثين عن آذان تقدر مواهبهم، وتتحول جدرانه في بعض الاحيان الى معرض للوحات الفنانين المبتدئين، وتتدخل الزوجة التي تشهد تفاصيل وجهها ومظهرها بالرقي الانجليزي اللافت، وتقول: لقد انتقلنا للعيش خارج لندن بعد ان بلغنا سن التقاعد، غير اننا نواظب على المجيء الى «بيرتو» مرتين في الاسبوع ، واشارت الى الجدران من حولها، وقالت لي: «انظري من حولك، ألا ترين روعة في البساطة والتفاصيل القديمة؟»، فهذا المكان يحاكي ذكريات الناس الذين جاءوا إليه منذ عشرات السنين، فبالنسبة لتلك السيدة إنه مكان يتعدى كونه محلا لبيع الشاي والحلويات إنه مكان يعبق بالتاريخ.

ويقول جيمس النادل في المحل: إنه بدأ العمل فيه منذ 40 عاما، وفي كل يوم يأتي فيه الى العمل إنه يوم جديد وأجمل من الذي سبقه، وذلك يعود الى الاجواء الجميلة والهادئة التي تميز «بيرتو» عن باقي محلات المدينة، وراح يخبرنا عن تاريخ المحل الذي يعود الى عام 1871 وكانت تملكه عائلة «بيرتو» الفرنسية التي نزحت من باريس الى لندن للعيش والاستقرار فيها، وبدأت السيدة بيرتو في صناعة الحلويات الفرنسية المميزة التي تشتهر بعجينتها الرقيقة المورقة والمحشوة بالكريمة البيضاء الهشة الى جانب الكيك بالفاكهة على ارضية من الكاسترد المصنوع من البيض الطازج، وتغطي حبيبات السكر الناعم وجه الكيك. وكانت تقدم الحلوى مع أكواب الشاي من صنف Earl Grey المنعش، وبعد غلاء اسعار الايجار والعقار في وسط لندن لم تتمكن السيدة «بيرتو» من تسديد رسوم إيجار المحل ما دعا بها الى فقدان الامل في إمكانية مواصلة تقديم أفضل أنواع الحلوى الفرنسية في لندن ولم يكن أمامها أي حل سوى إقفال المحل، لكن زوار المكان وبالتحديد سكان منطقة «سوهو» التابعة لمجلس بلدية «وستمينستر» وقفوا بوجه الغلاء، وقاموا بمساعدة السيدة «بيرتو» ماديا لتتابع مسيرة تقديم الافضل، وهذا ما جعل هذا المحل يراوح مكانه ويتغلب على الظروف القاهرة، وعلى مر السنين تعاقب على ملكية المكان عدد من الاشخاص الذين يتحدرون من عائلة «بيرتو» الى ان قامت النادلة ميشال وايت التي كانت تعمل فيه على مدى 40 عاما بشرائه واصبحت اليوم هي المالكة الرسمية للمحل. غير ان وايت التي عرفت تفاصيل وزوايا المحل قبل ان تشتريه لم تجرؤ على تغيير أي شيء فيه، لكنها اضافت اليه بعض قطع الموسلين الزهري الفاقع.

في هذا المكان يمكنك الجلوس في المدخل الرئيسي وفي غرفة موازية له، لكن مدخلها منفصل، مما يستدعي النادل الخروج الى الرصيف للدخول الى الغرفة الاخرى، وفي الطابق العلوي تجد طاولات خشبية من دون أي أغطية، والكراسي من الخشب القديم حفرت عليها اسماء مارة وزبائن وعشاق، استمتعوا بكوب الشاي وبجو لا يمكن وصفه، وخارج المحل وعلى رصيف بخلت البلدية بتوسيعه تنتشر الطاولات الصغيرة التي تشبه تلك التي تجدها على رصيف شارع «الشانزيليزيه» في باريس.

في «بيرتو» لا تطلب القهوة بالحليب أو ما يعرف بـ «اللاتيه» ،فهذا الطلب متوفر، لكن المكان ليس مناسبا لشرب القهوة الايطالية، إنه مكان لتناول كوب من شاي «ايرل غراي» الذي تعبق منه رائحة عطرة، لذا ينصح النادل بتناوله من دون إضافة الحليب لأنه من شأنه أن يتغلب على روعة العطر المنبثق من هذا النوع من الشاي، كما ينصح نادل آخر في المحل ويدعى «مينتون» بتناول قطعة من كيك التوت او «شوك الا كريم» Choux a la crème فطعم الحلوى مع مذاق الشاي يكملان بعضهما البعض، لتشعر وكأنك تسبح في سحابة خفيفة ورقيقة.

في «بيرتو» يمكنك تناول الحلوى والشاي ويقدم أيضا غداء خفيفا هو عبارة عن قطع مستطيلة من الـ«كيش لورين» المصنوعة من عجينة خفيفة محشوة بصلصة بيضاء وخضار مثل البروكولي وعلى وجهها طبقة من الجبن الذائبة، وفي المحل أيضا قطع من البيتزا المصنوعة على الطريقة الفرنسية، فهي تتميز بعجينتها المقرمشة والرقيقة، على وجهها بعض قطع الخضار والجبن.

وفي ركن آخر من المحل كان يجلس شابان من اصول صينية، فقال أحدهم بلهجته الانجليزية المفككة: إنه تعرف على هذا المكان منذ حوالي الشهرين، بعد ان اصطحبه اليه أحد أصدقائه، فتفاجأ بالديكور البالي وراديو الترانزستور القديم وقصاصات الجرائد القديمة التي تتصدرها عناوين تفيد بأن «اليزابيث الثانية» أصبحت ملكة على عرش بريطانيا، غير أنه، ومنذ ذلك الحين لم يعد يكترث لتناول الشاي او القهوة في «كافيه نيرو» أو «كوستا»، ففي هذا المكان معنى آخر لكوب الشاي، وطعم آخر للحلوى. وفي نهاية المطاف يمكن القول بأن «ميزون بيرتو» تحدى تطور التكنولوجيا ولم يأبه لموجة الانترنت العاتية فلم تفكر مالكته الحالية ميشال في إنشاء موقع على الشبكة لتعرف الناس به، ولم يعرف المحل يوما معنى المنشورات والاعلانات، وهذا يثبت بأنه «في البدء كانت الكلمة» والطعم والجو المميز هما مفتاح نجاح أي مشروع.