فنان عشق الطعام والمطبخ

الوجه الآخر لـدافينشي

TT

كان ليوناردو دا فينشي صاحب «المونوليزا» مهتما بالكثير من الحقول والمعارف والفنون، وقد ترك وراءه قدرا كافيا من الآثار والمخطوطات والملاحظات والرسوم الخاصة بهذه الحقول والمعارف باستثناء حقل واحد الا وهو حقل الطعام والمطبخ وعالمهما الواسع. فعندما تعرف به الموسوعات بشكل عام تقول :بأنه عالم حساب ومهندس ومخترع ورسام وطبيب ونحات ومهندس معماري وعالم نبات وموسيقي وكاتب، ووضع خلال حياته الحافلة والغنية ( 1452-1519) تصاميم اولية للمروحية والدبابة واستخدام الطاقة الشمسية والهوائية والحاسوب وغيرها من الافكار المفيدة التي جعلت منه واحدا من اذكى واهم الشخصيات العملية والفنية التي عرفها التاريخ البشري. ومع هذا الغياب للمطبخ وعالمه الأليف خلال التعريف به تاريخيا، تمكن بعض الباحثين في السنوات الاخيرة وخصوصا نهاية الثمانينات (1987) جمع ما امكن من الكتابات الخاصة بالأكل والمطبخ التي تركها دا فينشي وراءه على قلتها، وتم حفظها في بعض المتاحف والمجموعات الخاصة منذ مئات السنين. ويبدو ان كل المعلومات المتوفرة التي تحمل اسم «ليوناردوز كيتشين نوت بوكس» (Leonardo’s Kitchen Note Books) تعمتد على مخطوطة اساسية معروفة لدى الخبراء باسم «كوديكس رومانوف» (The Codex Romanoff). ويعتقد البعض ان تلميذه فرانسيسكو ميلزي هو الذي جمع الملاحظات، والبعض الآخر يعتقد ان دا فينشي تركها في عهدته قبل وفاته. ولأن المعلومات المتوفرة تدل على حب وولع كبيرين بعالم المطبخ من قبل دا فينشي، يقول جوناثن روث في الترجمة الانكليزية للمخطوطة بطريقة ساخرة، ان اعظم اعماله لوحة «العشاء الاخير»، التي انكب عليها لمدة ثلاث سنوات من حياته اكبر دليل على العلاقة الحميمة بين دا فينشي وعالم الطعام وادوات المطبخ. والحق ان الرجل الذي ورث طباخه باتيستا دي فيلانيس جزءا من املاكه في ضواحي ميلان، صرف من الوقت على الطعام وعالمه خلال حياته اكثر من اي شيء آخر. فقد صمم دا فينشي الكثير من ادوات المطبخ التي تثير الاهتمام والمشاعر وتحفز الذكاء، كما وضع الرسوم للصالات والمطابخ وهندستها، كما تشير الرسوم.

واعتاد دا فينشي ايام طفولته وصباه ـ لتحصيل مصروفه الشخصي - على العمل في مطابخ مطعم «فلورينتين» المعروف في ذلك الوقت في فلورانس مسقط رأسه في شمال ايطاليا، وقد فكر وحاول مع صديقه ساندرو بوتاشيلي عدة مرات افتتاح مطعمه الخاص به او ما كان يعرف ولا يزال بـ«التافيرنا». والاهم من هذا ان دا فينشي عمل كـ«سيد» (ماستر) في قصر «سفورزا» لمدة ثلاثة عشر عاما متواصلة وكان على رأس مهامه الإشراف المباشر على كل شاردة وواردة تتعلق بالمآكل والأطباق وبكلام آخر الولائم والعزائم و«السفرة» ومحتواها وخصوصا ذوق الزوار والزبائن. تعود علاقة دا فينشي القوية بالطعام كما يبدو مما هو متوفر من الوثائق، الى طفولته وتربيته وترعرعه في منزل والدته كاترينا (يقال ان اصولها من الشرق الاوسط) ووالده سار بييرو دافينشي الذي تزوج لاحقا من فتاة في السادسة عشرة من العمر. فخبر من والده ووالدته وزوجها اللاحق عالم المعجنات (باستا، سباغيتي، فطائر، وغيره)، واكتسب «ضرسه الحلو» (محبته للطعم الحلو) ومعرفته بالكثير من الاطعمة المحلية وخصوصا المجففة واللحوم الحلوة وحبه للاكل والمآكل بشكل عام.

ثورة في عالم الطعام: ورغم ان دا فينشي كان ينتقل من مشروع فني الى مشروع آخر في عالم الطبخ والمطابخ طيلة حياته ويحاول التوفيق بين الاثنين، فقد ادت افكاره المتقدمة والسابقة لعصرها بشأن الطعام، الى ثورة في اوساط زبائن مطعم «سنيلز تافيرن» مثلا، بعد تقديمه او تأليفه لما اصبح يعرف الآن بـ«الأطباق الجديدة» و«الاطباق اللذيذة الصغيرة» (او ما يعرف بالمازة التي تقدم قبل الوجبة الرئيسية) لتقدم حول طبق الثريد (العصيدة) الذي كان اساسيا آنذاك في ايطاليا واوروبا بشكل عام. إذ عمل الفنان الممتع على تقليل كميات الاكل وتزيين الصحون وفتح شهية الزبائن والاعتماد على اطباق الخضار (Vegetarian) ـ بدلا من اللحم والعظام - كما يحصل حاليا مع الطباخين المشهورين الذين تبدو اطباقهم لوحات فنية خاصة بدلا من ان تكون اطباقا من الاطعمة المسكوبة فوق بعضها بعضا من دون عناية او ذوق كما كانوا يفعلون مع الثريد حيث يضعون فوقه عدة انواع من اللحوم من دون تفكير (وضع رسوم للأطباق وطريقة توزيع الخضار والمآكل عليها). وكاد يقضي الزبائن الهائجون الذين يقتحمون مطبخه احيانا طلبا للمزيد من اللحم على الرجل النحيف والعبقري تحت الاقدام عدة مرات. وبكلام آخر كان الرجل اول من فكر في الطعام وعالم المطبخ كفن بحد ذاته، لدرجة ان شكا عماله منه مرة، قائلين انهم يحفرون ويرسمون اكثر مما يطبخون.

دا فينشي يدخل الحداثة وما بعدها في القرون الوسطى: وقد اثرت الطريقة القديمة في الطبخ وتقديم الطعام وغيره في تلك الأزمان، على طريقة تفكير دا فينشي وتطوير حسه البحثي. ولأنه كان يعتبر عالم المطبخ عالما قديما ومتخلفا وبطيئا ومبذرا وغير ذكي من ناحية الوقت والجهد المبذول فقد بدأ بالتفكير والاختراعات الخاصة بالأدوات المطبخية الهامة والضرورية التي يمكن ان توفر الوقت وتقوم بالمهمة على اكمل وجه. وقد صمم في هذا الإطار الكثير من الادوات المطبخية (Gadgets) التي توفر الجهد على العمال مثل اداة تقطيع البيض واداة طحن الثوم وآلة تجفيف الملابس والفوط ومفرمة اللحم وغسالة الصحون والخلاطة وفتاحة القوارير اللولبية وغيره. وعندما صمم دا فينشي شواية اللحم الميكانيكية (ذاتية الحركة) الضخمة التي تعمل على المروحة او الطاقة الهوائية إذا صح التعبير. ولا شك انه اراد بذلك انقاذ العامل الذي كان يحرك المشوي دون توقف طيلة النهار والاستفادة منه وتفريغه لعمل امتع واكثر اهمية (كان يكره مضيعة الوقت). ومع دا فينشي عرف العالم لاول مرة «السباغيتي» كما نعرفها الآن: نحيفة وخفيفة وطويلة وسهلة الطبخ، إذ كانت قبل ان يخترع آلة شدها، اشبه بـ«اللازانيا الثخينة» (قطع طويلة وثخينة من العجين) التي انتشرت من نابولي والجنوب باتجاه مدن الشمال. ولرفض الناس اكلها احتجاجا عليه بانه يصعب تناولها بالسكين، اخترع لهم الشوكة الخاصة بـ«السباغيتي» والمؤلفة من ثلاثة رؤوس.

وتوجد في مجموعة التصاميم الخاصة بـ«ملكة انجلترا» في قلعة ويندسر، غرب لندن ومكتبة الفاتيكان، مخطوطة لأكبر تصاميمه الخاصة بالمطبخ، وهي آلة الطحن التي تعتمد على طاقة الأحصنة التي تسمى «Cow Grinder». والاهم ان دا فينشي عمل على وضع تخطيط وتصميم لـ«نظام الإطفاء الداخلي»، وهو جهاز يستخدم الآن في كل مكان، ويقوم عادة بفتح الماء ورشها في كل مكان في حال حصول حريق في المطبخ او أي مكان. ولا بد من الذكر هنا ان دا فينشي، كان اول من قدم فكرة وجود «فوط» على طاولة الطعام، وعشرات السبل الفنية لطيها وعرضها على الطاولة (على اشكال الطيور وعلى شكل الأزهار والقصور وغيره). وعادة ما كان يقدم اختراعاته وافكاره الى رأس عائلة ماديتشي الشهيرة (لورينزو دي ماديتشي) التي كانت تحكم فلورنسا آنذاك رغم الخلاف العسكري مع البابا.

وبعد التفكير في وضع التصاميم لادوات المطبخ، بدأ دا فينشي (1478) كما يبدو بوضع ملاحظاته الخاصة بالوصفات والنصائح والافكار المطبخية بشكل عام والتي اطلق عليها كما سبق وذكرنا (Leonardo’s Kitchen Note Books). وبعد احتراق مطعم «سنيلز» بسبب خلاف بين مختلف العصابات، حاول دافينشي مع صديق بوتوشيلي تثبيت سمعة مطعمه الجديد الذي حمل اسم «ثلاث ضفادع» (Three Frogs)، لمدة ثلاث سنوات من دون أي نجاح يذكر وعلى الارجح ان السبب كان في عدم تقبل وفهم الزبائن لفكرة الاطباق القليلة الطعام والمزينة بشكل حديث التي تحاكي النفس والذات والحس المرهف اكثر مما تحاكي المعدة.

* محتويات المطبخ المثالي حسب دا فينشي

* يحتاج الطباخ اولا الى مصدر متواصل من النار والماء. وبعدها يحتاج الى ارضية نظيفة دائما، وبعدها ادوات للتنظيف والطحن والتقطيع والتقشير والتشريح. وبعد ذلك وسيلة للتخلص من الروائح السيئة وابقاء اجوائه حلوة وخالية من الدخان. ويجب ان لا ننسى الموسيقى لأنها تساعد الرجال على العمل بشكل افضل وبمتعة اكبر ، واخيرا جهاز للتخلص من الضفادع في براميل ماء الشرب. ولأن الراديو لم يكن موجوداً في القرن الخامس عشر ، وضع دافينشي تصاميم خاصة لأفكار تتعلق بأدوات موسيقية تعزف آليا وذاتيا، ومنها الطبل والأورغون الهوائي الذي يعزف بالفم.

وقد حاول دا فينشي تطبيق اختراعاته وأفكاره عن المطبخ المثالي خلال مشروع خاص بقصر «لودوفيشو». ولان افكاره كانت مثالية ومكلفة، اصبح مطبخ القصر الذي كان يوظف 20 طباخا، اشبه بمصنع تعج به الآلات، ويديره ما لا يقل عن 200 شخص، مما اضطر «لودوفيشو» الى اعطائه عطلة فنية لرسم بعض اللوحات الشخصية، وتصميم ازياء الموظفين وتحضير العروض الساحرة اثناء الوجبات والولائم. ومع هذا فقد استفاد «لودوفيشو» كثيرا من اختراعات دا فينشي وافكاره بحيث لجأ الى استخدام آلة حصد «قرة العين» (Watercress- بقلة مائية صغيرة تستخدم كثيرا في انجلترا) في الحرب ضد الفرنسيين الذين كانوا يحاولون احتلال ميلان آنذاك.

* «العشاء الأخير»

* خلال تلك الفترة بالذات وبعد ان حاول «لودوفيشو» ابعاده عن القصر بعد ان لاحظ اعجابا خاصا به من قبل زوجته، بدأ دا فينشي العمل على لوحة «العشاء الاخير» التي تعتبر الآن من اهم اللوحات التاريخية في العالم.

ويقول جوناثن روث وشيالغ في الكتاب الخاص الذي وضعاه عن علاقة دا فينشي الخاصة بعالم الطعام والمطابخ (Leonardo’s Kitchen Note Books)، ان دافينشي (1495) ومنذ ان بدأ العمل على اللوحة، اخبر صديقه الروائي ماتيو باندلي، انه يريد بهذه اللوحة «ان يبرر او يعطي تفسيرا مناسبا لعلاقته القوية وشغفه بالطعام في الماضي والحاضر»، وان العنصر الديني في اللوحة لم يكن الا عارضا او وعاء فنيا لتنفيذ تحفته الرائعة. وينحو بعض النقاد وهو منحى اكثر واقعية واهمية الى ان اللوحة جاءت تتويجا مذهلا وتعبيرا عن التداخل بين الفن والطعام في عالم دافينشي. ويبدو واضحا من النصوص القديمة المتوفرة ان دافينشي استوحى من وجه احد رجال الدين المقربين منه لاكمال اللوحة ورسم احد الوجوه لعدم توفر «الموديل». كما اشار «لودوفيشو» في عدد من رسائله الى اصدقائه منتقدا، ان المايسترو دا فينشي، يبدي اهتماما اكبر بمحتويات المائدة من الشخص الذي كان يجلس على المائدة. ومع هذا يعتقد البعض من المؤرخين ان العلاقة القوية بين دا فينشي والطعام وهنت وخفت وذبلت بعد تنفيذ رائعة «العشاء الاخير».

* نصائح دا فينشي

* - زهر الكوسا «اعتقد ان هناك بالتأكيد شيئا يمكنك استخدامه وهو زهرة الكوسا. اغمسها في الزبد الرخو والق بها في المقلى على الفور».

* - بقايا الطعام «إذا كان ما تبقى من الطعام والمآكل (لحوم النفائس والولائم الكبيرة)، افضل من ان يقدم للكلاب او الموظفين، يمكن تقطيعه ووضعه في طنجرة من الفخار وخلطه مع تسعة انواع من الثريد ثم غليه على نار هادئة لمدة نصف يوم للتخلص من طعمه المتكلف. عندها يصبح صالحا لجميع المخلوقات الذين بلا ادنى شك سيكونون ممتنين اكثر لجهدك واهتمامك».

* - حساء العنب «اعمل على غلي اكبر كمية ممكنة من العنب دون اضافة أي ماء لأن العنب فيه ما يكفي. وبعدها ضع العنب في المصفاة، وبعد التصفية اضف الى خليط العنب عدة بيضات وبعض العسل لتحصل على ما اسميه «حساء العنب». صديقي غواديو سبورغيري يقول ان الطبق مضيعة للوقت وانه لن يسمح باستخدام عنبه بهذا الشكل».