«المياس» مطعم أرمني في بيروت يدعو رواده إلى وليمة الهدوء

«ما من حب أصدق من حب الطعام»

جلسة هادئة في «المياس» (تصوير: جوزيف ابي رعد)
TT

لا شك ان الاحياء القديمة في منطقة الاشرفية اللبنانية في قلب بيروت تستحق الزيارة من دون سيارة. فمن يرغب في التعرف الى هوية الامكنة الزاخرة بعطر الماضي، فلا بدّ له من الترجل والاستمتاع بخطوات كفيلة بجعله يكتشف «زوايا» تلك المنطقة من دون مرشد او دليل سياحي.

وفي حيّ من تلك الأحياء، حيث المنازل الاثرية والشوارع متلاصقة بإلفة وحيث الهوية الاصلية «مطمورة» خلف المراكز التجارية الحديثة، تقع مجموعة من المطاعم التي يستحق الكثير منها الزيارة، ومن بينها «المياس». تسمية تجعل البعض يخالونه عنوانا لمطعم عربي ـ لبناني بامتياز. فهذا الاسم وعلى تعدد معانيه، يوحي بذلك. لان أصحابه شاءوا اعتماد معنى «الميس» وهو نوع من الاشجار ذات الأوراق العريضة.

على اية حال، يبقى الاسم اسما عربيا لمطعم ذي لافتة تتّسم بالبساطة كمحيطها. فلم تأتِ كبيرة أو ملوّنة او مرصّعة بالاضواء، بل «توارت» خلف الاغصان المتدلية. والمدخل على «تواضعه» يتحلى بشيء من السحر الذي يتأكد من وجوده الزائر مع كل خطوة متقدمة. المفاجأة أن المطعم يتمتع بمطبخ ثنائي الهوية: لبناني ذي طابع ارمني. فأصحابه الذين أسسوه في عام 1996 هم عائلة ارمنية، آثرت عدم ذكر اسمها ربما حرصا منها على الابتعاد عن الاضواء. عمل «الاب المؤسس» بما انه يهوى الطهي، على وضع المقاييس العامة لاطباقه التي باتت ذائعة الصيت لجودتها وخصوصيتها التي تمزج الهويتين اللبنانية والارمنية كما هما متعايشتان في المجتمع، ليقدمهما اطباقا متنوعة، تخطّى صيتها حدود الاشرفية وبيروت وايضا لبنان لتصل الى الخارج، حيث افتتح المطعم أخيرا فرعا جديدا في الكويت.

ويقصد المياس عدد كبير من الفنانين والوجوه الاعلامية المعروفة في العالم العربي، يأتون لتذوق ألذ النكهات المميزة التي ينفرد بتقديمها هذا المطعم، كما يأتون اليه للتمتع بأجوائه الهادئة فتشعر فيه وكأنك في جلسة في بيت ريفي او في شاليه سويسري في أعالي جبال الالب، لتنسى بأنك في وسط بيروت الذي ينبض بالحياة. والى جانب الاكل اللذيذ يتمتع الساهرون بالموسيقى الجميلة والاجواء الراقية. وتهتم بديكور المكان زوجة صاحب المطعم، حيث أضافت لمستها الانثوية الرفيعة إلى المكان، حتى جعلت منه ركنا ارمني الهوية، نابض الألوان، راقي الطابع إنما من دون تكلّف أو مبالغة. فهنا الحميمية هي أول ما يستقطب أعين الزوار الذين يشعرون من الخطوة الاولى وكأنهم في زيارة لبيت صديق او قريب ليلبّوا دعوة الى الغداء او العشاء. ويمكن القول ان «الحواجز» تزول قبل الجلوس الى المائدة، إذ ان هناك جوا يضفي على المكان تلك الالفة غير المبررة. حتى ان عبارة انجليزية وضعت في اطار خشبي علّق عند المدخل، ومفادها ان «ما من حب اصدق من حب الطعام». خطوتان أو ثلاث لتصل الى الصالة الدافئة بألوانها وحيث الجدران المطلية بما يشبه الطين، مزدانة بنقوش ارمنية ملونة ومزينة بصور لمنازل قديمة في بيروت وغيرها من المناطق، وكلها مؤطرة بالخشب الداكن. وهنا قنطرة صغيرة تفصل جزءَي الصالة المضاءة بلطف. فلم يشأ اصحابها الا الإنارة الخافتة والمميزة فاختاروا المصابيح المتدلية بعفوية، ليفردوا ركنا قريبا من السلّم المؤدي الى الطبقة الثانية، ليزينوه بتصاميم زجاجية مضاءة انما ملونة ومتعددة الاشكال. وقبل التوجه الى الطبقة العليا المنقسمة بدورها قسمين، تستوقف الزائر صور أخرى انما بالاسود والابيض. قد يسترجع البعض ذكريات وقد يسافر آخرون الى مكان ما يحلمون به وذلك خلال لحظات وجيزة... لولا ضيق المكان لامضى هواة في تأمل هذا النوع من الصور وقتا طويلا. لكن الطاولة المحجوزة فوق لا تزال في الانتظار، بضعة كراسي وطاولات وكنبات كفيلة بجعل الجلسة مريحة. سقف منخفض نسبيا ونوافذ خشبية صغيرة جدا «يكتشفها» الفضوليون خلف ستائر الاحمر القاني المصنوعة من الدانتيل والمنسدلة بعيدا عن الزجاج، مائدة مزينة بالشموع وأطباق بيضاء... وصل النادل بقميصه الازرق ينصح بتذوّق الكباب بنكهة الكرز أو طبق الـ «مانتي» الذي يشبه طبق الشيش برك انما بـ «النسخة الارمنية». فهنا اللبن يضاف طازجا الى الحبات المخبوزة وغير المغلقة التي تقدم في فخارة تكاد تشبه تلك التي اعتادت بعض الجدات استخدامها لاسيما في الارياف... ولكن في هذا الطبق «النكهة مختلفة لان المكونات تختلف عن مكونات الشيش برك العربي»، يقول احد المسؤولين في المطعم. كما هناك طبق الـ «سوبوريك» المؤلف من طبقات من العجين تفصل بينها خلطة سميكة من الاجبان. وهناك قائمة منوعة جدا من المازات والاطباق اللبنانية التي تقدّم بقالب جديد، إذ يمكن تذوّق «كبة نية المياس» التي تقدم بقالب مختلف عن الكبة النية اللبنانية، فهنا تقطع لقما وتزين بحبات الصنوبر وفي الوسط هناك خلطة من البقدونس والبصل مع البهارات. ولا ننسى طبقي السجق بصلصة البندورة والبسترمة. كذلك يمكن تذوق ورق العنب بالزيت و«الفتة الحرة بالفرن». والتغيير لا يقتصر على الشكل إنما على النكهة ايضا التي تدخل اليها انواع اخرى من البهارات. وينصح بتذوق عثملية المياس من بين قائمة الحلويات.

وعلى أنغام موسيقية ناعمة يستمتع الزوار بتناول طعام الغداء والتحدث براحة، أما في المساء فيمكنهم الاستمتاع بعزف «جورجيو» ذاك الرجل الكهل الذي يحمل غيتاره ويجلس في إحدى الزوايا ليغني اغاني «الأولديز» واللاتينية والعالمية، انما من دون اي سعي لاستقطاب كل انتباه الزوار. ذلك ان القيمين على المكان يفضلون ان يتابع الزبائن احاديثهم من دون ان تطغى الموسيقى.

«صحيح ان المكان يضفي هيبته على المطعم، انما أكثر ما يجذب الزبائن هو الخدمة التي يتولاها فريق مدرب لتوفير ارقى الخدمات وفق مبادئ الاهتمام الشخصي بالضيوف وتوفير الاطباق المتنوعة التي تتمتع بجودة عالية، فهذان الامران هما ما يضمنان استمرارنا»، يؤكد المسؤول في ختام جولة «الشرق الأوسط».