السمن البلدي.. العملة النادرة في المطبخ المغربي

لا يستغني عنه الكسكس والحريرة

TT

رائحة الأكل المحضر بالسمن البلدي، يمكن التعرف عليها بسهولة، لأنها تنبعث من المطابخ وتنتشر في الأجواء على بعد مسافات، وكأنها عطر فرنسي. فالسمن يعطي نكهة خاصة للطبخ المغربي التقليدي، وأشهر الوصفات لا تستغني عن هذه المادة الغذائية التي أضحت شحيحة في السوق، ونقصد هنا بالطبع السمن البلدي الأصلي المحضر بالزبد البدوي، أي المستخرج من حليب البقر الطبيعي. وبسبب ذلك انتقلنا الى «السوق الكبير» في المدينة العتيقة لسلا المجاورة للرباط، للقاء احد التجار القدامى الذي يبيع السمن الطبيعي، حيث ورث هذه الحرفة عن والده بعد وفاته عام 1964، حيث لم يبق سوى دكانه الصغير في «القاعة» كما تسمى، وهو تجمع دائري لعدد من الدكاكين الصغيرة التي كانت في القديم مخصصة فقط لبيع المنتجات الغذائية الطبيعية البلدية الآتية من المزارع والضيعات القريبة من المدينة، مثل السمن والزبد، وعسل النحل الطبيعي، وزيت الزيتون، والبيض.

يقول عبد المجيد كحكحني (64 عاما)، انه في شبابه كان تاجر ملابس في هذا السوق، لكن وفاة والده غيرت مساره المهني، إذ لم يوجد من يأخد مكان أبيه في الدكان الوحيد الذي كانت تملكه العائلة، فوقع الاختيار عليه، ولم يغادر دكانه، الذي لا يتعدى بضعة أمتار إلى يومنا هذا، يأتي إليه في الثامنة صباحا، ويغادره في الثانية عشرة والنصف ظهرا، ليعود إليه في الساعة الثانية والنصف زوالا ويظل هناك ينتظر زبائنه الى حدود التاسعة ليلا.

في هذا الدكان المتواضع، يحتفظ كحكحني بصورة والده، وهو شاب، معلقة على الحائط. أما بضاعته من السمن البلدي فيحفظها في براميل بلاستيكية موضوعة على الأرض وبجانبها براميل تحتوي على العسل الطبيعي، ويتوفر الدكان على مكيال صغير، وكرسي يجلس عليه خلف منضدة خشبية متهالكة، هي كل الأدوات التي يحتاجها في عمله اليومي.

يبيع كحكحني الكيلوغرام الواحد من السمن بسعر 80 درهما، ويفتخر انه الوحيد الذي يبيع السمن الأصلي، مثلما يفتخر أن له «زبائن كثر» يعرفونه منذ سنوات، ليس في مدينة سلا وحدها، بل يأتون إليه من أحياء بعيدة في العاصمة الرباط المجاورة، مثل حي الرياض، لذلك فهو متشبث بدكانه الصغير، وليس بحاجة الى دكان عصري بواجهة زجاجية تطل على شارع رئيسي، حتى يعرفه الناس أكثر.

ويقول كحكحني إنه يجلب الزبد البلدي، أو «العربي»، كما يسمى في بعض المدن، من المزارع المجاورة للرباط، وأول مرحلة في تحضير السمن، تبدأ بصب الماء على الزبد بعد وضعه في إناء كبير مقعر، ثم عجنه مثل طريقة عجن الخبز، إلى ان يصبح الماء ابيض مثل اللبن، فتصفى منه، وتعجن مرة أخرى بماء مملح، فيوضع الزبد بعد ذلك في برميل بلاستيكي، ويغطى بقماش ابيض تصب فوقه كمية كبيرة من الملح، ثم يغلق بإحكام، ويعمل الملح كمادة للتعقيم تحفظ السمن من التلف.

ويوضح كحكحني أن اقل مدة يحتاجها الزبد ليتحول إلى سمن هي عام كامل، أما اقل من ذلك، فلا يمكن الحصول على سمن، مضيفا انه بالإمكان مزج السمن بوريقات الزعتر اليابس، أو ماء الزعتر ليمنحه مذاقا مختلفا.

وقال كحكحني إن بعض الناس يستعملون السمن كدواء لعلاج آلام المفاصل، ونزلات البرد، إلا أن السمن المخصص للعلاج يختلف عن المخصص للأكل او الطهي، فالسمن الذي يتحول الى دواء يسمى «الحايل»، ويبقى محفوظا لأكثر من ثلاث سنوات يتغير خلالها لونه ومذاقه، ولا يعود صالحا للأكل.

ويكثر الإقبال على شراء السمن البلدي في المواسم والأعياد على الخصوص، لذلك في مثل هذه المناسبات يعرف دكان كحكحني رواجا ملحوظا بخلاف الأيام العادية، وقد يمر يوم كامل لا يرى فيه أي زبون، إلا انه غير مكترث لذلك، «فكل يوم ورزقه».

يؤكل السمن مدهونا على الخبز لوحده او ممزوجا بالعسل، وهذا المزيج اللذيذ هو الذي أوحى باستخدام عبارة «سمن على عسل»، للدلالة على صفاء القلوب. ويستعمل السمن في معظم وصفات الطبخ المغربي التقليدي، وأشهرها الكسكس، فالكسكس من دون سمن، لا مذاق له، كما يستعمل في بعض الحلويات مثل «غريبة السمن»، وهي حلوى بسيطة تحضر بالدقيق والزيت والسكر وقليل من السمن.

ويطلق على الفطائر المحضرة بالسمن، «المسمّن»، وهي فطائر لذيذة تحضر بالدقيق والماء وقليل من الملح، وتطهى في مقلاة ويرش عليها السمن، تتناول مع الشاي الأخضر او القهوة.

لكن لا يعرف أهمية السمن غير الطباخين المهرة، والحاجة فاطمة واحدة منهم، التي قالت لـ «الشرق الاوسط»: «إن السمن من ركائز الطبخ المغربي التقليدي مثله مثل البهارات، كالابزار والزنجبيل والقرفة، ويستعمل خصيصا للأطباق التقليدية التي تحضر في المناسبات، كطاجين اللحم بالبرقوق، او طاجين الدجاج، كما ان استعماله ضروري في بعض الأكلات العادية، مثل طبق الكسكس بالخضر، او «التفاية»، وهو مزيج حلو بالبصل والزبيب، بالإضافة إلى حساء الحريرة، التي يعطيها السمن نكهة متميزة وخاصة، ذلك انه أثناء إعداد الحريرة يمكنني الاستغناء عن قطع اللحم اذا لم توجد، لكن السمن لا».

وتتذكر الحاجة فاطمة ان والدتها كانت تحتفظ بالسمن في آنية من الخزف تسمى «الخابية» محكمة الإغلاق، وكأنها تحتفظ بعلبة مجوهرات «فالدار الذي لا يوجد بها سمن وعسل تعتبر خاوية من الاكل»، على حد تعبيرها. وكان السمن والعسل يحفظان في العادة في أماكن سرية في البيت لا تعرفها إلا الأم، حتى لا يصل إليهما الأولاد، وإذا لم يوجد مخزن، فيوضعان تحت السرير لضمان حراسة مشددة عليهما، وذلك تحسبا لزيارة ضيوف مفاجئين، حيث يقدم إليهما مع الخبز والشاي بالنعناع.

ورغم تغير عادات الأكل، ما زال السمن يحتفظ بأهميته في الطبخ المغربي، حتى وإن لم يكن سمناً بلدياً طبيعياً، فالسمن المحضر بالزبد «الرومية»، أي المصنعة، يفي بالغرض ويمنح الأكل نكهة قريبة نسبيا من نكهة السمن البلدي كذلك، ويستعمل على نطاق واسع، حيث يباع في كل مكان. وبسبب ذلك، تأسف كحكحني لأن لا احد من أولاده سيخلفه في مهنته بعد مماته «فأولادي لا يتحملون البقاء جالسين طوال اليوم في هذا الدكان الضيق»، وسيكون مصير الدكان هو الإغلاق، شأنه في ذلك شأن الدكاكين المجاورة التي توفي أصحابها.