البرغل.. تحضيره فولكلور وأكله حنين للماضي

سعره أصبح يضاهي الأرز

TT

يعتبر البرغل، الذي يستخرج من محصول القمح بعد حصاده وسلقه وتجفيفه ومن ثم جرشه بالآلات الحديثة حالياً أو بالجاروشة الحجرية اليدوية التي لا تزال موجودة حتى الآن وتستخدم في القرى، المكون الغذائي الشعبي الأول للريفيين وللفقراء الذين لا يستطيعون شراء الأرز لغلاء سعره رغم أنه يعتبر الألذ والأطيب في أدبيات الطعام لدى هؤلاء الفقراء ولذلك يتداول هؤلاء مثلاً شعبياً معروفاً في بلاد الشام وهو: (العز للرز والبرغل شنق حاله) ولكن مع موجة الغلاء التي تشهدها المحاصيل الزراعية في العالم ومنها القمح ارتفعت أسعار البرغل بشكل كبير في الأسواق السورية حتى أصبح ينافس الأرز ـ ويعلق لؤي قطريب ـ بائع في محل سوري ـ وهو ممن يعتمدون على البرغل كطعام بشكل كبير ضاحكاً وساخراً: لقد تخلى البرغل عنا نحن الفقراء وقرر أنه لن يشنق نفسه أمام الأرز.

ويقول محمد الصابوني وهو يعمل في أحد المطاعم الدمشقية لـ«الشرق الأوسط» عن البرغل كطعام على موائد السوريين: لشهرة سورية بزراعة القمح في معظم المناطق السهلية والجزيرة والشرقية والوسطى ولندرة زراعة الأرز في سورية فإن منتجات القمح من المأكولات هي الأكثر تناولاً بين السوريين، خاصة البرغل الذي ينتج منه نوعان أثناء جرشه وهما: الناعم الذي يستخدم بشكل رئيسي في تحضير الكبة بأنواعها والثاني الخشن وهو الأساس في كل المأكولات على المائدة، وميزة الخشن أنه يحضر منه أطعمة متنوعة ولذيذة وبمختلف الأشكال ولذلك يعادل الأرز هنا ومن أشهر المأكولات التي تحضر منه ومعروفة كثيراً في الريف السوري هي (المجدرة) والتي تعتبر الأكلة الشعبية الأولى لدى القرويين وتطبخ من البرغل وزيت الزيتون والبصل والعدس، حيث يطهى البرغل بالماء ومن ثم يضاف له العدس المطهو المسلوق أيضاً ويقلى البصل اليابس بالزيت حتى يصبح لون البصل المفروم أحمر ليضاف للبرغل والعدس ولتصبح المجدرة جاهزة للتناول وكلما تمكنت الريفية التي تطبخها من طهوها بشكل متقن، خاصة أن لا تكون ملتصقة أو لزجة كلما كانت ألذ وأطيب، ورغم رخص أسعار مكونات المجدرة كطعام إلا أنها تعتبر من الأكلات المعتبرة في الريف السوري ولذلك يطلقون عليها مثل شعبي يقول: ( المجدرة المدردرة أكلة مقدّرة) ومن الأطعمة التي تحضر من البرغل على موائد السوريين هناك: ما يحضر منه بالسمن سواء البقري أو الغنمي، حيث يطهى البرغل ويضاف له الحمّص المسلوق أو الشعيرية المحمصة ولحم الخروف البلدي أو الدجاج كما يتفنن البعض بإضافة الفستق الحلبي المبشور إلى البرغل المطهو ويقدم مع اللبن الرائب أو مرقة البندورة والبطاطا أو البامياء أو الفاصولياء أو البازلاء. ومن الأكلات الشعبية التي تحضر من البرغل ـ يتابع الصابوني ـ هناك: البرغل المطهو مع البندورة (الطماطم) الحمراء الطازجة في فصل الصيف لتوفرها أو من معجون الطماطم (دبس البندورة) في فصل الشتاء لعدم توفر الطازج منها، والتي تطهى مع البرغل ويضاف لها الزبدة أو السمن ولتؤكل بعد الطهو كطبق لذيذ ذي لون مائل للاحمرار مع وجود شرائح البندورة الطازجة أو دبس البندورة الأحمر الزاهي. والطريف أيضاً هنا أن بعض الأسر الريفية تطبخ البرغل مع الأرز لينتج عنها أكلة يطلق عليها هؤلاء: (القرباطية) كما يطبخ البرغل أيضاً مع حب الفول الأخضر أو مع العكوب (السلبين) الذي يستخرج كنبات طبيعي بري من أراضي السهول والبادية والجبال السورية أو يأتي من الجزيرة والحدود العراقية، حيث ينتشر هناك ما يسمى العكوب الرملي وهو غير مرغوب لوجود الرمل الصحراوي في مكوناته.

وفي الماضي كان ينظر الى البرغل كأكلة بسيطة شعبية ورخيصة ومكون يتوفر في مطابخ جميع الطبقات الاجتماعية، وذلك بسبب طعمه اللذيذ الاقرب الى الارز كما انه يعطي الشعور بالشبع وهذا ما كان يطمح اليه اهالي القرى الفقيرة، غير ان البرغل اصبح اليوم متوفرا في جميع المخازن الكبرى العالمية واصبح يطلق عليه اسماء جديدة، فيطلق عليه الغربيون اسم «كسكس» ويستعمل حتى في السلطات الجاهزة في محلات بيع الطعام السريع، كما يتم استخدامه في تحضير طبق التبولة اللبناني الشهير الذي اصبح طبقا عالميا مع إضافة بعد التعديلات عليه، ويستخدم فيه البرغل الخشن.

من الأطعمة الشهيرة أيضاً التي تستخرج من القمح هناك: (القمحية) كما تسمى في دمشق أو الهريسة كما يطلق عليها سكان الريف السوري حيث يتم جرش القمح بحجم أكبر من حب البرغل وأثناء الطبخ تنتفخ حبات القمحية ويبيض لونها، حيث تطبخ مع السمن البلدي أو الزبدة ويضاف لها لحم الغنم أو الدجاج والمكسرات وخاصة اللوز. وهناك أيضاً (الفريكة) وهي من الأكلات اللذيذة والشهيرة في دمشق والمناطق السورية وسعرها عادة مرتفع حيث تحضر من القمح الأخضر بقطفته الأولى بطريقة خاصة متعبة وتأخذ وقتاً أطول من تحضير البرغل أو القمحية، حيث يتم تحميص القمح بأوان فخارية وعلى الفحم ومن ثم يتم تعريضه لأشعة الشمس وبعد تجفيفه يتم جرشه ويطبخ على شكل مناسف في أوعية كبيرة حيث يضاف له لحم غنم العواس حصرياً مع المكسرات خاصة الفستق الحلبي.

ويؤكد العديد من المهتمين بالتراث الشعبي السوري أن هناك الكثير من عائلات الريف السوري ما زالت تعتمد الطريقة اليدوية في تحضير البرغل لتخزينه كمؤونة في البيت رغم انتشار معامل تجفيفه وتحضيره وبيعه مغلفاً بشكل أنيق، والسبب هو ان لتحضير البرغل طقوساً شعبية ريفية خاصة إذ في مواسم الحصاد ومع بدء فصل الصيف يقوم الريفيون بترك قسم من قمحهم المنتج في أراضيهم أو يشترونه من الأسواق والقرى المجاورة وباتفاق بين عدد الأسر المتجاورة في الحي الواحد يسلقون القمح في قدور ضخمة على نار الحطب المشتعل في ليالي الصيف المقمرة ومع طقوس ريفية جميلة حيث تجتمع الصبايا والشباب في الحي بالقرية يغنون ويدبكون حتى ساعات الصباح الأولى ومع اكتمال سلق القمح الذي يستغرق أكثر من عشر ساعات من المساء وحتى صباح اليوم التالي تقوم النساء بعد ذلك بتركه حتى يبرد ومن ثم يجفف على أسطح المنازل وبعد التجفيف يتم جرش القمح الصلب الجاف وتذريته بطريقة فلكلورية من قبل النساء في الحي حيث يفصلن القش عن البرغل وتتحول شوارع القرى إلى أكوام من قشور القمح المدرى لفصل البرغل عن البقايا ومن ثم يخزّن في مستودع المنزل إلى جانب القمح المقطوف الذي يحتفظ به القرويون لتحضير الخبز في مختلف فصول السنة ويطلقون على مكان الاحتفاظ بالقمح والبرغل اسم: (الحاصول) وهو شكل فلكلوري أيضاً دخل حالياً متحف التقاليد الشعبية وهو مصنوع من الخشب والمعدن على شكل مستطيل وله غطاء من الأعلى يوضع منه القمح والبرغل وفي الأسفل هناك فتحات صغيرة (نوافذ) تفتح عندما تريد المرأة أخذ قليل من البرغل أو القمح للطبخ أو لتحضير الخبز في تنور الأسرة الريفية.