زمن «القهوة» يشهد ذروته في السعودية

المقاهي تسرق الناس من منازلهم

TT

تعدّ جلسات القهوة أبرز وجهات السكّان اليومية في العاصمة السعودية (الرياض)، ولا يكاد شارعٌ رئيسي أو طريقٌ شهير يخلو منها، وعلى جنباتها تنتشر أسواقٌ ومتاجر ذات اختصاصات مختلفة، تدور بها الملايين من الريالات.وعلى الرغم من عدم حداثة وجود المقاهي في السعودية إلا أن عوامل اجتماعية وثقافية واقتصادية أدت إلى كثرتها الجاذبة للسكّان خلال الأعوام القليلة الماضية، بعد أن كان جمهورها يقتصر على فئة من الناس، والمسؤول عن كل ذلك التغيير هي «القهوة» التي باتت تشهد أزهى عصورها في الوقت الراهن.

يحمل روّاد «المقاهي» مشاعر جميلة مع جلسات القهوة المنتشرة في المدن، والتي ظلت اليوم أشبه بوجهات ثقافية بما يحتويه بعضها من الكتب المختلفة والصحف المتنوعة إضافة إلى الظروف التي مكنتها من أن تكون حاضنات تعارف اجتماعي مهيأة بجميع الإمكانات، يرتادها الناس للالتقاء مع أصحابهم والجلوس أو النقاش أو للهروب من صخب المدينة وازدحامها الخانق، والحصول على فنجان أو كوب من القهوة العربية أو الغربية بكافة أصنافها، كما أنها أصبحت مكاناً ملائماً للأزواج، الصديقات والأصدقاء، بما يكتسبه بعضها من الخصوصية والعزلة.

ولم يتوقف مد انتشار المقاهي إلى الشوارع الشهيرة والواسعة فحسب، بل تعدّى ذلك إلى أماكن لم تكن بالحسبان، فالمستشفى الذي يعجّ بالمراجعين والزائرين طيلة ساعات اليوم، أصبح بالإمكان التوجه إلى أحد أركانه والاستمتاع بكوب من القهوة في جلساته الهادئة، وكذا الحال في نقاط التوقف في محطات تعبئة البنزين وغيار قطع السيارات.

خلال العامين الأخيرين تحولت شوارع شهيرة تقع على جنباتها المقاهي،إلى قطعٍ أخرى يخيل للمار بها أنه خرج عن نطاق المدينة، ويتصدّر تلك الطرق، شارع «التحليّة» الشهير، شمال الرياض حيث يوجد به أشهر العلامات التجارية العالمية التي تقدّم القهوة وتوفر جلساتها الجاذبة للجماهير، من أميركا وفرنسا وإيطاليا وغيرها تعتليها أضواء اللوحات المختلفة بجميع ألوان الطيف، تشتم من بين جلساتها روائح الزهور،ومن شارع مجاور تجد المقاهي الشعبية تجذب الناس بلون الجدران الطينية وأشكال الفوانيس والقهوة العربية وأصناف الشاي.

ويتذكر السعوديون جيداً كيف أن تلك المقاهي، كان يتعارف على ارتيادها كنوعٍ من الفخامة والأناقة كما كان يرتادها فئات محدودة من الناس نظراً لحداثتها، وأسعار منتجاتها التي لم تكن في متناول الجميع بخلاف حالها الآن، عندما شهدت السعودية دخول أول نوع من محلات الـ «كوفي شوب» بصيغتها الحديثة عام 2000، لتأخذ بالانتشار شيئاً فشيئاً مع تحولات مختلفة حصلت ما بينها وبين الجمهور الذي أخذ في التنوع والازدياد مؤثراً بذلك في الأسعار ونوعية المنتجات، إلى هذا اليوم الذي وصل فيه حجم سوق مقاهي الـ «كوفي شوب» إلى 15 مليار ريال (4 مليارات دولار) في العام الواحد.

ومن بين مئات الشباب كان عبد السلام ناصر وإلى وقت قريب يعتقد أنه ينتمي إلى الفئة الأكثر وجاهة وثقافة في المجتمع، فهو يرتاد «مجالس القهوة» المصطفة على جنبات الشوارع الكبرى بنشوة وفرح كبيرين، ولكن اعتقاده ذاك لم يدم طويلاً وهو يشاهد سكان بلاده اليوم بشتى أصنافهم وتوجهاتهم يتقاطرون على تلك «المقاهي» جماعات وأفرادا ويقضون فيها الساعات الطوال.

ومن ركن قصي في مقهى تراثي ذي جدران طينية عتيقة وسط الرياض ـ صممت كعامل جذبٍ ـ، يتحدث عبد السلام ممسكاً بيمينه كوبا من القهوة وإلى جواره رفّ عليه مجموعة من الكتب فيقول: «بخلاف السابق، أصبح الكل يأتي إلى هنا،تجلس فتستمع إلى الناس يخوضون في كل شيء، مشاكلهم اليومية، الزوجية، غلاء الأسعار، الرياضة، الثقافة والفن، ثم يشدّك مشهد شخص لا يرافقه سوى «الكتاب»، غير آبهٍ بالصّخب والضوضاء الذي تعج به الجلسات التي لا تبعد عنه سوى سنتيمترات قليلة».

ثمة تغيّر اجتماعي يتعلق بعادات مجتمعية كالضيافة والزيارات، وآخرٌ ثقافي يتعلق بالتعاطي مع الظروف والمتغيرات التي يمر بها المجتمع جعلت من «المكان» محوراً للتغيير ـ هذا ما يشير إليه المراقبون ـ الذين يؤكدون أن كل ذلك يعكسه اكتظاظ مجالس شرب القهوة في السعودية مجتذبة مئات الرواد الذين يتشاركون كل ليلة بارتياد «المقاهي»، وعن ذلك يقول عادل المكينزي وهو أستاذ جامعي: «محلات شرب القهوة بصيغتها الحديثة وانتشارها الراهن لا تزال تقليداً جديداً غير معهودٍ لدينا بشكل كبير استطاعت بحق أن تجتذب أعدادا غفيرة من الناس».

ويؤكد المكينزي بأن محلات شرب القهوة التي أصبحت متنفسا في المدن الصاخبة المزدحمة، نجحت بسبب الاحتياج الراهن، لأماكن مهيأة وقابلة لأن تكون ملتقيات وأماكن تخدم شتى الفئات والأغراض، لافتاً إلى أن الخيارات العديدة التي تقدمها من المشروبات الساخنة والباردة وبعض الوجبات الخفيفة دعمت نجاحها لدى الجمهور.

عبد الرحمن محمد محمود، أحد العاملين في (يوم القهوة) وهو مكان شهير وفاخر يقصده الناس للجلوس أو القراءة أو قضاء الأعمال، يقول: «يبدأ الناس بالمجيء إلى هنا في وقت مبكر من المساء، يكتظون جماعات وأفرادا لشرب القهوة أو تبادل الأحاديث الخاصة أو العامة، أو لقراءة الصحف والاسترخاء، ولكنه يشير إلى أن ثمة تغيرا أنقذ «المنزل» الذي كان محطة التقاء عند كثير من الناس سابقا، بفضل ما تحظى به جلسات القهوة التجارية من إمكانات وجلسات مهيأة، فضلاً عن توفير الصحف اليومية والمجلات، وخصوصية في كثير الأحيان».