«أل مورو».. وجهة السياسيين والسياح في روما

4 أشخاص لتحضير السلطة.. واللحم سيقفز إلى فمك

TT

آخر الطرائف المتداولة في روما هي أن لورا بوش زوجة الرئيس الاميركي مغرمة بالأكل الايطالي، لذا ألحت على زوجها لزيارة العاصمة الايطالية مجددا هذا الشهر لكي تتناول الطعام في مطعمها المفضل بينما يقضي زوجها الوقت في مقابلة رئيس الوزراء الايطالي سيلفيو برلسكوني وبابا الفاتيكان، خاصة أن زعماء العالم الذين تباحثوا في أزمة الغذاء خلال مؤتمر قمة الأمن الغذائي وملأوا المطاعم وأفرغوها من محتوياتها قد غادروا العاصمة. يعترف محبو الأكل الايطالي بأن مطبخ روما والمدن المحيطة بها فقير في تنوعه وبسيط في تحضيره بالمقارنة مع الأقاليم الأخرى في توسكانا وعاصمته فلورنسا وفينيتو وعاصمته البندقية (فينيسيا) وجزيرة صقلية وعاصمتها من أيام العرب باليرمو لكن مطعم «المورو» Al Moro (أو: العربي الأسمر) الذي يتسع لتسعين زبونا يشذ عن القاعدة ويشهد له المتحمسون لأكل روما عاصمة البابوات وزبائنه المشاهير من السياسيين والنجوم أنه من أفضل المطاعم التي تقدم الأطباق التقليدية البسيطة بطريقة ناجحة وطعم لذيذ في جو عائلي مريح يبعث على الاسترخاء واستذكار حقبة «الحياة الحلوة» في روما. المطبخ الايطالي غني ومتنوع وتمتاز كل منطقة بأطايبها الاقليمية، فاللحم المشوي في فلورنسا لا مثيل له والبيتزا في نابولي هي من أخص اختصاصات تلك المدينة الحافلة بالضوضاء والماء العذب الصالح للعجين أما الحلويات فهي احتكار حصري لباليرمو دون شك، فالصقليون حلويون مزجوا القشدة العربية والفستق الحلبي مع الكاتو الفرنسي واللوز والعسل الاسباني وكل من احتل الجزيرة عبر القرون.

روما مليئة بالتناقضات وأهلها يمتازون بالمرح والسخرية والحيوية وتقلب المزاج وعشق الترف والفن ومن أسعد لحظاتهم التسوق في أسواق الخضار والفواكه المفتوحة ثم الاستمتاع بوجبة اليوم التقليدية. أندريا رومانيولي (46 سنة) صاحب مطعم ال مورو يعمل بنفس الطريقة ويتبضع بالمنتجات الطازجة يوميا فهذا هو تقليد المطعم منذ افتتاحه قرب نافورة الاحلام ( فونتانا دي تريفي) عام 1929 حين زاول جده الأسمر هذه المهنة في نفس المكان فسموه ال مورو ( نسبة الى العربي من موريتانيا) ثم تبعه ابنه فرانكو ـ والد أندريا ـ الذي شارك أيضا في بعض أفلام المخرج السينمائي الشهير فيليني بعد أن أصبح فيليني من زبائن المطعم وتبعه العديد من النجوم، وطارت شهرة المآكل التي يقدمها الطهاة المهرة الذين عملوا لدى أندريا ووالده وتوسعت دائرة الزبائن في السنوات الأخيرة لتشمل لورا بوش ورئيس الوزراء البريطاني السابق طوني بلير ومن العرب العديد من الأمراء السعوديين والقطريين وملكة الاردن رانية وآل الحريري واقتفى نجوم هوليوود الجدد مثل توم كروز وهاريسون فورد خطى قدمائهم كاليزابيت تايلور واورسون ويلز وشون كونوري.

قال أندريا رومانيولي في مقابلة خاصة مع «الشرق الأوسط» ان حجم المطعم الذي افتتحه جده كان أصغر من حجمه الحالي وان كان الحجم محدودا حتى اليوم للحفاظ على الجو العائلي والأنس والدفء، وحسب التقسيم الايطالي القديم لأنواع المطاعم بدأ «المورو» كحانة لتقديم المأكولات البسيطة أي «اوستيريا» خلافا لما يسمى «تراتوريا» أي مطعم صغير مع طاولات على الرصيف و«ريستورانته» أي مطعم فخم أو رستوران. ولم تحتو قائمة الطعام في آخر العشرينات على أكثر من ثلاثة أطباق اولى (معجنات) وثلاثة أطباق ثانية (من اللحوم أو أعضاء البقر والغنم غالبا). حين سألت أندريا اذا كان قد حافظ على الأطباق الواردة في لائحة الطعام الأولى أجاب «لقد احتفظنا بالأطباق التقليدية لمطبخ روما التي أثبتت السنين شعبيتها ولا نجد ضرورة لتحويرها أو مزجها مع مكونات المطابخ الاخرى في ايطاليا أو اوروبا» وأردف قائلا «على كل شعب أن يحافظ على تقاليده الطعامية فهناك طهي مميز لكل منطقة ومدينة وهذا ما نسميه التراث الطهوي». تشتهر روما من أيام الرومان ومن سبقهم بخرافها وأجبانها المستخرجة من حليب الغنم التي ما زالت تتمتع بالشعبية حتى اليوم مثل جبن البيكورينو (أي جبن الغنم) المشابه للبارميزان والجبن الحلو «ريكوتا». ويدعي المؤرخون أن روما في عهد يوليوس قيصر ومن تبعه من القياصرة الرومان اشتهروا بدعواتهم وموائدهم الباذخة لكن الحقيقة أن عدد من كانت لديه الثروة الكافية لإقامة الولائم الفاخرة لم يتجاوز مئتي عائلة والأكيد أن المطبخ الروماني توسع وتحسن وغدا أكثر مذاقا بعد احتكاك الرومان بالأقاليم التي احتلوها في بلاد الشام وآسيا الصغرى، فمنها استورد الرومان أبرع الطهاة الذين جلبوا معهم البهارات والتوابل ويقال أيضا انهم أدخلوا معهم الثوم لأن المطبخ الروماني القديم كان يقتصر على استعمال الملح والاعشاب حين يطهون اللحم. وتأثر مطبخ روما مرة ثانية بما حمله الصليبيون العائدون من حروبهم في الشرق في القرون الوسطى وأدخلوه في وجباتهم اليومية لكنه بقي فقيرا ومحدودا بالمقارنة مع المناطق الاخرى في ايطاليا، فحتى يومنا هذا تقتصر أشهر الوجبات على قطع الخروف المشوي وشرائح لحم العجل المقلية بالزبدة وعشب القصعين (سالتا ان بوكا) وسلسلة العمود الفقري للبقر المغلي مع صلصة الطماطم والكرفس (كودا ألا فاشينارا) والدجاج الشيطاني (بولو ألا ديافولا) نسبة الى الفلفل الأسود والأحمر الحار قبل شيه على الفحم وخضرة الخرشوف أو الأرضي شوكي مع زيت الزيتون والثوم والنعناع الأخضر، وكان الأغنياء عبر التاريخ يتناولون أطرى شرائح لحم البقر (فيليه) بينما يبقى للفقراء أعضاء اللحم البقري أو الامعاء التي تباع في المسلخ أو لدى القصابين بأسعار زهيدة. يختص مطعم المورو بكافة أطباق مطبخ روما من اللحوم بما في ذلك كرش البقر او الغنم، حيث تضاف التوابل اللازمة حسب الأصول التقليدية ويفتخر أندريا بأن مطعمه يحافظ على التراث التقليدي حسب نصائح حركة «الأكل البطيء» التي ظهرت في ايطاليا منذ عقدين وانتشرت في كافة أرجاء العالم لوقف زحف تيار الأكل السريع والهامبرغر الاميركي كما يختص بالسباغيتي ألا كاربونارا مع البيض واللحم والكثير من الفلفل الأسود وينصح ـ حسب التقليد المحلي ـ باستعمال القليل من عصير الليمون مع السمك كي لا يفسد النكهة البحرية للأسماك وتختم الوجبة بالحلوى المحبوبة في روما وهي «تيرا مي سو» (أي: ارفعني الى الأعلى)، ويصر أن الطبخ ليس سلسلة من الحلقات المنظومة المتتالية مثل انتاج المصانع، بل ابتكار يدوي يومي يتطلب الذوق والبراعة، ومع ذلك لا يذكر دليل ميشلان الفرنسي المعروف للمطاعم اسم المورو لكن أندريا لا يبالي بذلك بل يركز اهتمامه على خلق الجو المناسب لراحة الزبائن وجعلهم يحسون وكأنهم في بهو دارهم، لذا اختار بنفسه مجموعة جميلة من اللوحات لرسامين مغمورين يمتازون بالموهبة الابداعية وابتعد عن نصائح المختصين بالديكور والتزيين.

وجبات المورو اليومية تتبدل حسب الموسم وتوفر المواد الأولية من الخضار والفواكه أما السمك فيقتصر على يوم الجمعة حسب تقاليد الكنيسة الكاثوليكية فعلينا أن لا ننسى حكم البابوات لروما على مدى مئات السنين، ويتم اختيار الأطباق بين أندريا ووالده الذي ما زال يواظب على العمل رغم تقدم سنه، أما الطباخ الشيف فهو بيترو بارينيللي من مقاطعة أبروتزو المجاورة لروما والمشهورة بطعامها الجبلي الجيد ويعمل في المطعم 15 شخصا ما بين طباخين وندل وبعض مساعدي الشيف أصبحوا من بنغلاديش أو مصر أو الفليبين.

الندل المخضرم فينشنسو فيسبا يضفي المرح والحيوية على الجو، خاصة في الزاوية المخصصة للزبائن المخلصين الذين يداومون باستمرار ومنهم من يبقى بعد الغداء ليلعب الورق (الشدة) وكأنه مقيم في منزله. لفت فيسبا الانتباه الى لوحة معلقة على الحائط مليئة بالاحصاءات الطريفة تتساءل: من يعمل في ايطاليا؟ تجيب الأرقام: عدد السكان 59 مليون نسمة ننقص منهم 12 مليونا من العجائز والمتقاعدين ثم ننقص 32 مليونا من موظفي الحكومة الذين لا يعملون شيئا سوى قبض الرواتب وبعد طرح نسبة الأطفال والتلاميذ والعاطلين عن العمل نجد أن عدد العاملين الفعليين لا يتعدى 3 ملايين! ويعلق فسبا قائلا «ألا ترى أولئك الذين يضيعون وقتهم في لعب الورق لبضع ساعات بعد أن قضوا عدة ساعات في التهام المآكل.. ليس هذا بغريب عندنا فلحم العجل سيقفز الى فمك لشدة لذته وهذا ما يعنيه اسم الطبق «سالتا ان بوكا» أما تحضير السلطة فسيقضي على مشكلة البطالة في البلد اذ نحتاج الى أربعة أشخاص: واحد لغسلها وثان لتقسيمها وثالث لرش الزيت والخل ورابع لخلطها»!