«بول».. اسم عريق وقصة طويلة في عالم المخبوزات

مأكولات تجمع بين رفاهية العقل الفرنسي والقدرة على الإحساس بالأهمية

«بول» اسم شهير بسبب جودة مخبوزاته ومأكولاته الاخرى («الشرق الأوسط»)
TT

يوجد في العالم اليوم 330 فرعاً لمخابز «بول» الفرنسية الشهيرة. هذا الرقم ليس مبالغاً به، ولا هو خيال بحت، بل حقيقة متجردة تقف خلفها عقود من العمل على تحسين النوعية، وتقديم الأفضل في مجال المخابز، والمطاعم البسيطة السهلة. وإذا أردنا القول بأن هذه المخبزة تعتبر الأب الحقيقي للسندويتش الفرنسي السريع، الذي يختلف عن وجبات المطاعم السريعة بأنه يملك هوية كلاسيكية توضح علاقة الفرنسي بالأكل وفن تحضير الأطعمة على اختلافها. ورغم سيطرة الوجبات السريعة الأميركية ووجودها في كل بقعة من بقاع العالم باستثناء (العراق وإيران وكوريا الشمالية وأفغانستان لأسباب سياسية)، وعدد من الدول الفقيرة في أفريقيا لأسباب اقتصادية. فإن هذه المخبزة موجودة أيضاً في كافة بقاع العالم لتقديم أفضل أنواع الساندويتش الفرنسي بكل ما يحتويه من مذاق ورفاهية. في الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا واليابان والصين ولبنان وقطر والبحرين ودبي وتركيا والمغرب. تقدم هذه المخبزة خدماتها وخبز الباغيت الشهير الى جانب الحلويات الفرنسية لكل صاحب مزاج خاص في الأكل ولكل متذوق في العالم. وهي في فرنسا تقدم خدماتها لحوالي 5 ملايين زبون شهرياً. وإذا اطلعنا على عدد السنوات التي تشكل عمر هذه المؤسسة الكبيرة، لا نكتشف سوى أننا أمام حالة فريدة، لا مثيل لها في العالم المعاصر. هي قصة تسعة أجيال من عائلة واحدة تعاقبت على إدارة مؤسسة من أنجح المؤسسات الفرنسية في العالم. تبدأ قصة هذه المخبزة في منطقة Artoi الواقعة في شمال فرنسا، وهي المنطقة التي كانت تسكنها عائلة Mayot التي يعمل أفرادها جميعهم في الزراعة. والتي بدأت العمل في الزارعة أولاً بين عام 1720 ـ 1830. وكانت العائلة في ذلك الوقت محدودة الحجم والتأثير ويتشكل معظم أفرادها من الفلاحين الذين يعملون بالأرض فقط. لكن عام 1889 أسس أحد أفراد هذه الأسرة وهو شارلمان مايوت Charlemagne Mayot مع زوجته التي لا يذكر اسمها في المصادر الخاصة بتاريخ العائلة، مخبزة صغيرة بالقرب من مدينة ليل Lille في الشمال الفرنسي، وبدأ العمل بها لتحسين ظروفه الاجتماعية. ورغم أن الهدف كان الدخول في عالم التجارة ووقف العمل في الزراعة، إلا أن المخابز في ذلك الوقت لم تكن كما هي عليه اليوم. بل كان عامل المخبزة يملك مطحنة القمح وهو من يقوم بطحنه يومياً من أجل تحضير العجينة ومن ثم خبزها بالشكل التقليدي القديم، بما يعني أن العلاقة مع الزراعة لم تنقطع كلياً. لكن بعد وفاة الأب ورث المخبزة ولده البكر والوحيد إدمون مايوت Edmond Mayot العمل بها في نفس المكان من دون أية تغييرات تذكر. عام 1935 تسلمت الابنة الوحيدة لإدمون مايوت سوزان، العمل في المخبزة، وبعد زواجها من جوليان هولدر افتتحت مع زوجها الفرع الثاني لمخبزة بول في ساحة ستراسبورغ في مدينة ليل. كانت هذه الخطوة أولى خطوات العائلة بتوسيع عمل المخبزة التي انتشر صيتها في تلك المنطقة من الشمال الفرنسي. خطوة ستشكل في ما بعد الحلم الذي سيحققه فرانسيس هولدر حفيد إدمون مايوت لابنته. وقد تسلم فرانسيس العمل كمدير للمخبزة عام 1958 خلفاً لوالده الذي توفي في ذلك العام. مع الحفاظ الشديد على أن يبقى الاسم الأول للمؤسسة (بول) العلامة الأساسية من دون أي تغيير يذكر. ومع والدته التي بقيت الى جانبه في إدارة المخبزة بدأ فرانسيس بتطوير الخبز الفرنسي الذي كان معروفاً في ذلك الوقت باسم (فيينا)، إضافة الى الخبز الأبيض الذي كان الأشهر يومذاك. مطلع عام 1965 سيكون نقلة نوعية في عالم الأسرة، فالاكتفاء فقط بالمخبزة التي تبيع الخبز للسكان المحليين في مدينة ليل لم يعد هو الهدف الوحيد في عقل فرانسيس، بل إن الأحلام الكبيرة كانت دائما تطارده (كل عمل سعيت له بدأ حلماً صغيراً في المخبزة) على ما يقول هو في حديث لصحيفة محلية في أواخر الستينات. فقام ذلك العام بتأسيس شركة توزع الخبز على متاجر التجزئة الكبيرة مثل Auchan وفي ما بعد ذلك على Monoprix التي يوجد في كل فرع من فروعها في العالم زاوية مخصصة لمخبزة بول. لكنه في ذلك الوقت كان يوزع الخبز باسم من ابتكاره ما زال لغاية اليوم من أشهر الأسماء في عالم الخبز الفرنسي هو Moulin Bleu أو المطحنة الزرقاء. وبعد ذلك بعدة أعوام، تحديداً عام 1970 أسس فرانسيس هولدر، أول ثلاثة مخابز عملاقة، ليتمكن من إمداد كافة متاجر التجزئة الكبيرة بالخبز، في معظم أنحاء شمال فرنسا بداية ثم ليتوسع الى معظم الأراضي الفرنسية. وهو أول من ابتكر فكرة بيع العجين غير المخبوز وخبزه في المتاجر ليقدم ساخناً طازجاً الى الزبائن. وقامت فكرته على توزيع أفران خاصة صغيرة على هذه المتاجر وتزويدها بخبز الباغيت عجيناً جاهزاً للوضع في الفرن لدقائق معدودة قبل بيعه. وبالأنواع الأخرى من الخبز، وتصنع شركته اليوم ثلاثة وأربعين نوعاً من الخبز وليس فقط الباغيت الذي هو الأكثر شهرة.

طور فرانسيس هولدر، مالك مجموعة هولدر التجارية الكثير من الخاصيات في عالم الخبز في فرنسا والعالم. واليوم فإن شركته تتعاقد مع ثلاثمائة من أكبر مزارعي القمح في فرنسا ويخصص، فقط، لشركته حوالي ثلاثة آلاف وخمسمائة هكتار من القمح سنوياً تزرع وفق مواصفات بالغة الدقة. كما أنه أقام مختبرات لتطوير هذه الزراعة. لكن مع ذلك فإن هذا الرجل الحالم بالخبز والطحين والقمح، وبالأرض التي هي أساس الحلم الأول، والتي منها انطلق الجد المؤسس شارلمان مايوت. ارتاح في عام 2000 ليعطي لابنه مكسيم هولدر إدارة المؤسسة مع أخيه الأصغر دافيد والأخت الوحيدة إليزابيث. وهم جميعاً يعملون من أجل استمرار الحلم العائلي متوارثاً وحقيقياً ويعيش على أرض الواقع.

اليوم وبعد أن تم الانتشار في حوالي 22 بلداً حول العالم. لم تعد مؤسسة بول (بيت النوعية) Maison de Qualite تقتصر في عملها على صناعة الخبز وتوزيعه وبيعه، طازجاً ومقرمشاً على عادة الخبز الفرنسي. بل هي تحوي مطعما يمثل الثقافة الفرنسية في أبهى حللها، إذ تجمع السندويتشات التي يصنعها بول بين رفاهية العقل الفرنسي والقدرة على بيع الحلم والإحساس بالأهمية. الى ذلك، فإنه لا يمكن بناء الإحساس بالأهمية من فراغ. فالعناصر متكاملة في ما بينها، إذ ان الأمر لا يتوقف فقط على بيع الخبز والساندويتش الأطيب، بل إن العنصر الفرنسي عادة ما يكون حاضراً في كل متاجر بول حول العالم التي تشتهر بأنها مكان فرنسي يجمع بين كافة مكونات الثقافة الفرنسية العريقة. هذا الأمر الذي سيعطي هذه المخبزة هوية لا تضاهى ولا مثيل لها. ففي عام 1979 قرر فرانسيس هولدر، خلق أماكن الاجتماع وأسلوب الحياة مع المساحات التي جاءت لترمز الى ازدهار العلامات التجارية التي يمثلونها في المؤسسة، خاصة بول، التي هي المؤسسة الأم. ورغم أن القدر حتم على إدمون مايوت ألا ينجب سوى ابنة واحدة هي سوزان مايوت هولدر، فإن زواجها من جوليان هولدر وإنجابها فرنسيس ومن ثم إنجاب فرانسيس ثلاثة أبناء ساهم في بقاء الحلم الأول مشتعلاً في رؤوس جميع أفراد العائلة.

حول الحلم والمؤسسة يقول فرانسيس هولدر في تقديمه لموقع المؤسسة على الإنترنت www.paul.fr: «أمام الجميع في هذه الحياة فرص لا ينبغي تفويتها، وأنا شخصياً حققت اثنتين من هذه الفرص التي هي أساس هذه المغامرة الرائعة».