للقمح.. معاركه ولصوصه

من بيادر القرية العتيقة

TT

يتموج سهل البقاع اللبناني صيفا مع تمايل سنابل القمح. تلك السيقان الذهبية كانت في زمن مضى تنتظر مناجل المزارعين وسواعدهم تجمعها شمائل شمائل في الحقول التي اشتهرت باسم أهراء روما، قبل أن تحملها الدواب إلى البيادر. هناك يتولى النورج وظيفته، ليدرس الغلال، وبعد ذرها تبقى حبات القمح. ولأن القمح جزء من النسيج الاجتماعي للبنانيين راج استخدام سنابل القمح في تزيين المنازل، ربما طمعا بذكريات لم تعد بمتناول اليد، لأن الحصاد أصبح يتكل على الآلات، والبيادر في معظم القرى اللبنانية لم يبق منها إلا اسمها، وغابت معالمها، فيما بقي بعض الحجارة يشير إلى سور بيدر هنا، ومنازل نمل كانت في ما مضى تسرق قمح البيدر فتخزنه حتى صيف آخر. لكن لا شيء يؤثر في مكانة القمح الذي ورد اسمه في الكتب السماوية. وعدا طحنه وتحويله الى دقيق لصناعة الخبز، لا تزال القرى تحتفل بمواسمه لتحوله بعد سلقه وجرشه إلى برغل يفاخر به اللبنانيون مادة أساسية في التبولة التي يدعي الإسرائيليون أنها من مطبخهم في مسعى لسرقة تاريخ وثقافة بعد سرقة أرض ووطن.

عندما نسترجع رحلة القمح إلى البرغل، نستعيد ذكريات طفولة قديمة وكلمات غابت عن قاموس لغتنا اليومية. القمح لا يزال عريس البيادر، سواء استخدم الحصادون المناجل لحصده في منتصف شهر حزيران، وسواء اذا نقل على ظهور الدواب إلى البيادر، او تمّ تحميله في السيارات والشاحنات. أما البيادر فكانت عبارة عن قطعة من الأرض بسطح مستو تقام في العراء وغالبا على قمة تل معرّض لهبوب الريح. وكانت الغلال تكدس على أرض البيدر على شكل دائرة، بانتظار النورج وهو عبارة عن لوح خشبي أسفله مطعم بالمسامير الحديدية يجره ثور درب ليسير بشكل دائري، فيدرس الغلال لتصبح السيقان الذهبية تبناً وينفصل عنها الحب. وبعد الإنتهاء من النورج كان الحصّاد يذري الحبوب في الهواء ليزيل ما علق بها من تبن. وفي سماء البيدر كانت الطيور تنقض لتلتقط حبة قمح من هنا وأخرى من هناك. وكان أهالي القرى يتغنون بإنتاجهم كيفما منّت به عليهم الطبيعة، ويفاخرون به فيقولون «زوان بلادي ولا قمح الصليبي» (في إشارة الى الحقبة الصليبية). والزوان هو حب أسود صغير لا يؤكل. وللقمح معاركه ولصوصه، فقد كان أصحاب الغلال ينامون في بيادرهم خوفا من ازدياد غلة بيدر آخر تحت جنح الليل وإن كانت سماء مقمرة. وسرقة القمح من بيدر إلى آخر كانت غالبا ما تولّد خلافات عائلية تمتد أحيانا من جيل إلى جيل، إلا إذا نجح مختار القرية أو كبير القوم في حلها. وكان الحل يقتضي السرية أحيانا تجنبا من التشهير بأحد، لأن المرتجى «أكل العنب لا ضرب الناطور». وإذا لم تنجح المعالجة سرا يحضر الشهود.

ولأن القمح يدخل عمق الثقافة الشعبية اللبنانية، كان يحكى قديما عن الفرق بين حساب الحقل وحساب البيدر. وذلك في إشارة الى ما يزرع ويحصد من الحقل وبين ما يبقى من قمح على البيدر ليتم الحساب على أساسه. في الماضي كان يتولى هذه المهمة خبير يثق به أهالي القرية، كما كان لكبار عائلات القرية النطق بالحكم الذي لا يرد. تجدر الإشارة إلى أن البعض كان يحتفظ بالقمح سنابل لمدد طويلة لأنه طالما بقي الحب في السنابل فلا خوف عليه من التسوس. بعد رحلة القمح من الحقل إلى البيدر يأتي دور عملية السلق. تجدر الاشارة الى ان كل حي في القرية له «خلقينته». و«الخلقين» هو عبارة عن قدر كبير تتساعد نسوة القرية في إشعال النار تحته بعد ملئه بماء كانت الصبايا يحضرنه من عيون الماء بجرار كبيرة، واليوم لا تزال آثار النار والرماد في زوايا بعض القرى. اما الخلقينة فقد تحولت على الأرجح إلى تحفة توضع في المنازل. رحلة ملء الجرار بالقمح كانت موعدا للعشاق. فالشبان وبذريعة المساعدة كانوا يختلون بالحبيبات، ما كان يدفع بالجميع الى المشاركة طمعا بلقاء يلوّن النهار المتعب بابتسامة تستمر حتى المساء. العمل يبدأ مع صياح الديكة في ساعات الصباح الأولى، ويبدو التجمع حول نار الخلقينة في الصباح وكأنه طقس قبائلي لا ينقصه سوى رقص الصبايا اللواتي ينقلن القمح المسلوق في أوعية تحمل على الرؤوس إلى سطح الدار وأسطح الجيران المؤتمنين، وكان صبية الحي ينتشرون هنا وهناك، يغرفون بأكفهم قمحا مسلوقا ساخنا شهيا كطفولة من زمن مضى. وإن استطاع الصبية انتظارا فكانوا يكافأون بـ «القلبة» وهي طبق قمح مسلوق يقدم ساخنا ويضاف اليه اللوز والسكر. صبحيات سلق القمح تطول وتتنادى العائلات لـ «العونة» وكل سيأتي دوره ومعظم العائلات تزرع القمح طمعا بخبز ومؤونة لفصل الشتاء، فزراعة القمح توفر الطعام أيضا للدواب، وهو علف من تبن، كان يجمع في غرف كبيرة في سقفها كوة يتم من خلالها انتشال ما تطعم به الحيوانات، وإلى جانب التبن هناك «الكرسنة» وهي شظايا القمح التي استعصت على الجاروشة وكانت تبلل بالماء وتوضع على ورق العنب لعلف الخروف الذي سيتحول لاحقا إلى «قاورما« تستخدم في الأوقات التي يتعذر فيها شراء اللحم خصوصا في فصل الشتاء الذي كان قارسا في جبالنا، وكانت الثلوج تقطع الطرق المتعرجة قبل أن تتحول أخيرا إلى طرقات واسعة تسهر عليها آليات فتح الطرق.

وبعد سلق القمح كانت الجاروشة هي المحطة اللاحقة، والجاروشة عبارة عن حجرين مستديرين مسطحين أشبه بإطار تربطهما اسطوانة في الوسط، وفي أحد الحجرين والذي يوضع دائما إلى الأعلى حفرة تسمح بوضع حفنات من القمح. وفي الحجر نفسه وتد يستخدم كذراع. والجاروشة كانت تتلون بحسب الحجر الذي صنعت منه وأجملها ذات اللون الأسود، وإن لم تكن الألوان تعني شيئا لاولئك النسوة اللواتي كانت الواحدة منهن تجلس في أرض الدار، وحولها صديقات وجارات حضرن للمساعدة، فإدارة الجاروشة الحجرية تتطلب سواعد قوية. ولطالما اشتهرت نساء القرى بقواهن البدنية بسبب العمل في الأرض، وقدرتهن على تحريك الجاروشة لطحن القمح فيتحول برغلا.

قديما قيل «العز للرز والبرغل شنق حالو» وذلك في إشارة الى الثمن المرتفع للرز مقابل البرغل. لكن البرغل لم يشنق نفسه فها هو يزين أشهى الأطباق اللبنانية وأشهرها. وهو أساس طهو الكبة أكانت نيئة أم مشوية أو مقلية و«الفراكة» بالتأكيد، وهي الكبة الجنوبية التي لا يضاف اليها ماء وانما تعجن بالزيت والبهارات والاعشاب المطيبة. ولا بد من التذكير بكبة البطاطا او البندورة او «الكبة الحيلة» وكلها وصفات تمنح الجسم وحدات حرارية وتمنع البرد عن الجيب وتحمي الميزانية. وهو كذلك عنصر اساسي لتحضير التبولة. كذلك كان اهل القرى يستخدمونه بدل الأرز في كل أنواع الطبخ خصوصا مع المحاشي، وفي القرى أطباق كثيرة يبقى البرغل نجمها كالبرغل بحمص.

«وقمح» كانت تسمية لمقطوعة موسيقية ألفها الموسيقي اللبناني زياد الرحباني، ومن الحكم المشهورة في لبنان «وقمح بدك تأكلي» وهو للتدليل على مكانة القمح في التراث الشعبي. فهو يعتبر من أهّم الحبوب المفيدة لصحّة الإنسان نظرا الى ما يحتوي عليه من الفيتامينات وخاصة فيتامين (ب) ومعادن كثيرة مثل الحديد والفسفور والسيليكون واليود الذي ينشّط عمل الغدة الدرقية. كذلك يقّوي القمح الجهاز العصبي للانسان ويمنح الجسم القوّة والنشاط. ويلعب دورا مهما في تقوية العظام والأسنان وتغذية الشعر وزيادة لمعانه. ولا تنتهي حكايات القمح ومنتجاته. منه خبز القمح على التنور، والخبز المرقوق على أيدي «نساء الفرن» مع حكايا القرية ونوادرها صبحيات تطول مع طلمية بزعتر وشاي محلى بدبس العنب، أو المرقوق مغمسا بالحليب الطازج، والبقرة تنتظر في الحظيرة. ومن مر بمسنة من قرانا تخبز خلف الدار لا بد وان تلح عليه بقولها: «ولو تفضل ما في شي من قيمتك رغيف مرقوق أو بعملك طلمية؟». وكان يخلط طحين القمح بالذرة المطحونة أحيانا أو بالطحين المستورد حينا آخر. واليوم لم يعد الطحين يعرف طريقه إلى منازلنا إلا خبزا نشتريه من المحال، والمرقوق الذي كان خبز كل يوم تحول إلى تشكيلة تحضر من دون تعب على موائد الصباح ولم يعد يتطلب الحصول عليه جهد الامهات والجدات.