الطريق إلى «مودينا» عبر المعدة

خدمة الرجال قبل النساء.. وآلة قهوة عمرها يفوق تاريخ الوحدة الإيطالية

مودينا تغري الزائر بمطاعمها العديدة
TT

يمتاز فصل الخريف في ايطاليا بجمال الطبيعة ولذائذ المآكل لذا ينطلق محبو البطون والطعام الشهي في جولات سياحية يكتشفون خلالها أفضل المطاعم في الأقاليم المختلفة. قال لي الفريدو تسيو رئيس «مجموعة الذوق الرفيع» في جمعية الصحافة الأجنبية في ايطاليا التي تضم 500 عضو من مختلف بلاد العالم «إذا كنت ترغب في زيارة مطبخ ايطاليا فعليك بزيارة مقاطعة اميليا رومانيا الشمالية التي تقع جنوب ميلانو». القلائل يعرفون أصل تسمية هذه المقاطعة التي تم وضعها على الخريطة دون قصد من قبل رجل لم يعرف اطلاقا ماذا فعل ففي عام 187 قبل الميلاد أيام حكم الرومان أعطى ماركوس اميليوس ليبيدوس اسم اميليا للشارع الطويل الممتد بين مدينة ريميني الساحلية في شرق ايطاليا على البحر الادرياتيكي الى مدينة بيشينزا القريبة من ميلانو فنعتت المقاطعة على اسم الشارع واضيفت كلمة رومانيا نظرا للصلات الوثيقة مع روما عاصمة الامبراطورية الرومانية. هناك على الأقل خمسة أسباب لزيارة تلك المقاطعة الغنية التي تشمل مدنا شهيرة مثل بولونيا ومودينا وبارما وفيرارا ورافينا، إذ تقوم بدور المحرك الاقتصادي للمنتجات الايطالية الزراعية التي بلغت في العام الماضي 23 مليار يورو (حوالي 30 بليون دولار) أي أكثر من تصدير الملابس والأحذية والأزياء. الطعام فيها لا مثيل له ويكفي أن نذكر جبن البارميجانو ريجانو (البرميزان) والخل البلسمي المختزن لمدة 40 سنة قبل استعماله والمعجنات (الباستا أو المعكرونة) وعلى رأسها التورتيليني بشكل وسائد أو دوائر صغيرة محشوة باللحم أو الجبن أو الخضار واكثرها شعبية المحشوة بلحم العجل المفروم مع جبن البارميزان والقليل من جوزة الطيب وسجق المورتاديلا وكذلك ألذ أنواع الكرز في ايطاليا ويسمى فينيولا والحلويات المخلوطة باللوز الحلو والمر (أماراتيتي). أضف الى ذلك الفسيفساء أو الموزاييك الشهير والمقاهي القديمة والحياة الليلية الصاخبة وقصور جمهورية سان مارينو التي تشبه مونتي كارلو دون وجود البحر. عاصمة الاقليم بولونيا مشهورة بجامعتها العريقة ومطاعمها الفاخرة لكن مدينة مودينا معروفة للجميع لأنها مسقط رأس المغني الرائع لوتشيانو بافاروتي وسيارات فيراري الرياضية لذا انطلقنا إليها لا للتفتيش عن الكمأة الخريفية النادرة إنما لجولة طعامية نعاود بعدها الحمية حتى يعود الوزن الى نصابه العادي.

مطاعم مودينا وضواحيها: لا يمكنك مقاومة إغراء الأكل اللذيذ في مودينا وإلا فالأفضل عدم زيارتها على الاطلاق. اقتصاد هذه المدينة الخلابة وريفها يعتمد على تصدير الاكل منذ القدم، ويروى أن الحاكم الذائع الصيت تشيزاريه بورجيا بعث عام 1494 بهدية طعامية من مودينا الى زوجته المعتقلة في باريس في بلاط الملك لويس الثاني عشر احتوت، بالإضافة الى النقود الذهبية، على السكر الأبيض المقبل من البندقية (فينيسيا) والفواكه المجففة المحلية وعلى رأسها كرز فينيولا. لا يمكن لأحد أن يزور مودينا دون أن تمتد ذكرياته إلى مطبخها وأطباق الباستا المميزة وطريقة طهي اللحوم بهدوء وبطء أو كما يقولون بالايطالية: بيانو بيانو.

المطعم الفائز بجائزة العام «اوستيريا روبيارا» من النوع الشعبي وجرى احتفال تقديم جائزة جمعية الصحافة الأجنبية في فندق الشيراتون بروما في حفل عشاء خاص، ولا تتجاوز فيه فاتورة الحساب أكثر من 30 يورو (أو 38 دولارا) ويبعد مسافة عشرة كيلومترات عن مودينا في قرية تدعى نونانتولا، وهو مطعم تاريخي عريق وثاني أقدم مطعم في المنطقة حيث يستخدم مطبخه المنتجات المحلية الموسمية وصاحبه ايتالو بيدروني معروف بوصفة تاريخية لتحضير التورتيليني يدويا وحشوه بجبن الريكوتا الحلو مع الزبدة الباردة واستخدام الخل البلسمي في طهو البصل المقلي والاسلوب العتيق في الخدمة حيث تقدم الأطباق للرجال اولا ثم للنساء ولديه آلة لتحضير القهوة الايطالية اسبريسو هي الأقدم في ايطاليا يعود تاريخ صنعها إلى ما قبل الوحدة الايطالية وتجد فيه مفروشات أثرية قديمة وطاولات ريفية بسيطة ومدفأة على الحطب.

يقول بيتر لوف رئيس اللجنة في جمعية الصحافة الأجنبية التي قيّمت المطاعم الايطالية الجيدة هذا العام واختارت اوستيريا روبيارا للجائزة الاولى «حين دخلت ذلك المطعم لأول مرة قبل خمس سنوات انتابني الشعور بأن الزمن قد توقف، وحين عدت مجددا هذا العام وجدت آلة قهوة الاسبريسو على حالها منذ 140 سنة وقد بهرت زميلي القادم من السويد الذي صرح بأنها من نوع فايما Faema E 62 أفضل آلة لصنع القهوة الايطالية في التاريخ». وأضاف «حين دخلنا سألني صاحب المطعم ايتالو بيدروني إن كنت قد جلبت معي الهاتف النقال فأجبته كصحفي محترف لا يفارق نقاله: كلا رغم أن الهاتف كان مخفيا في جيبي، أما زميلي السويدي فأسرع لقفل هاتفه لأنه أدرك فورا أن الأمر جدي فكل زبون عليه أن يترك هاتفه عند الدخول كي لا يزعج الزبائن الآخرين حيث يضعونه في الخزانة مثل المعاطف. عائلة بيدروني تتعاطى مهنة الطعام منذ ستة أجيال ففي عام 1862 افتتح أحد أجداده المطعم الصغير المستمر في العمل دون انقطاع منذ 146 عاما، ويتقاسم ايتالو العمل في المطعم مع زوجته فرانكا ترامبوليني بينما يشرف ابنه جيوسيبي على الدكان المجاور الذي يبيع كافة أصناف الخل البلسمي من مودينا.

اذا لم يعجبك التورتيليني واللحم المشوي بالفرن على الطريقة التقليدية لدى اوسترياروبيارا أو لم تتمكن من الذهاب خارج مدينة مودينا فهناك مطعم فخم يدعى «اوستريا فرانشسكانا» ويعتبر من أجود المطاعم في ايطاليا لكن فاتورة الحساب هناك ستصل الى 100 يورو للشخص الواحد (126 دولارا) في جو راق أنيق يتفوق فيه الشيف ماسيمو بوتورا في ابتكار ألذ مآكل مودينا الفاخرة. تاريخ مودينا العسكري في حروب القرون الوسطى وأيام الدوقيات لم يكن مشرقا لكن تاريخها الطعامي وبراعتها في فن الطبخ يجعلها في مقدمة مناطق ايطاليا وموضع افتخار الذواقة في كافة أرجاء العالم.

وصفة ايتالو لشرائح اللحم مع الخل البلسمي: وصفة تقليدية لقراء «الشرق الأوسط» من مطعم أنتيكا اوستريا روبيارا لطهي شرائح لحم العجل أو غيره من اللحوم والمهم استخدام الخل البلسمي الأصلي من مودينا. تطهى الشرائح الرقيقة بعد طرقها بمطرقة خشبية وغمسها بقليل من الدقيق قبل إلقائها في مقلاة حامية تحتوي على كمية متماثلة من الزبدة وزيت الزيتون. حين يتحمص الدقيق قليلا ويكوّن غلافا لشريحة اللحم يضاف القليل من الملح ثم ملعقة من الخل البلسمي وبعدها يذوب كوب من المرق ويترك الطبق قليلا من الوقت ليتشرب المكونات. يقدم الطبق ساخنا مع البطاطا أو الخضار Osteria di Rubbiara (Nonantola – Modena) –tel. 39 059549019