المطاعم الأجنبية في فلورنسا تنافس ورثة دانتي وغاليليو وماكيافيللي

أرز لبنان بجوار الفنان مايكل أنجلو

TT

في سنة 1000 ميلادية احتكرت البندقية (فينيسيا) التجارة مع الشرق وخاصة مصر وتركيا، واعتمدت قوتها على توريد مادة بسيطة إلى كافة أرجاء إيطاليا وهي الملح، ثم زادت عليها التوابل والبهارات المستوردة، لكن فلورنسا في وسط إيطاليا التي تتمتع بوجودها الجغرافي في قلب البحر الأبيض المتوسط اكتفت بملح الطعام وأطلقت عصر النهضة الأوروبية بدون الفلفل والبهارات وتباهت بأبنائها العظام أمثال الشاعر دانتي والعالم غاليليو والكاتب السياسي ماكيافيللي، وبالطبع الفنان الخالد مايكل أنجلو. أهل فلورنسا كرماء حين يقيمون الاحتفالات والمآدب السخية، لكنهم مقتصدون لا يحبون الإسراف في منازلهم ويمتازون بالوقار والرصانة والذوق الرفيع وحب الرسم والنحت والموسيقى، وكانوا فيما مضى يتناولون وجبتين للطعام خلال اليوم حوالي الساعة التاسعة صباحا وفي المساء قبل الغروب، ويذكر أن الراهب سافونارولا المتقشف ثار على الكنيسة في القرن الخامس عشر وبذخها في عهود حكم عائلة ميديتشي، فانتهت حياته بالإعدام وكان يصيح أمام أهالي فلورنسا قائلا «ألا تكفيكم المعجنات لملء بطونكم؟ وهل من الضروري فعلا إضافة الثوم إليها بعد قليه في الزيت وخلطه بالجبن؟ ألا يكفي مرق المعجنات وماؤها المغلي بالملح؟» تبدل الحال، حيث اكتُشفت أميركا التي أخذت اسمها من أميركو فيسبوتشي الرحالة ورسام الخرائط المولود في قرية بالقرب من فلورنسا عام 1454 فتعرفت على الطماطم (البندورة أو بومودورو بالإيطالية) والفلفل الحار والبطاطا، لكنها بقيت مخلصة لتناول الأرز القادم إليها من بلاد العرب، وتطور المطبخ فيها في القرن السادس عشر، فأضافوا شوربة البصل والشوربة الذهبية لاحتوائها على البيض والزعفران وكانوا يتباهون في عصر النهضة بطبق فاخر من البط مع الليمون والبرتقال الذي أصبح يُعرف في العصور الحديثة على أنه ابتكار فرنسي باسم «كنار ألورانج» وبعكعة الكبد واللحم، ومن الحلويات الأرز والحليب المحضر بالسكر ونكهة البرتقال. وكل تلك المواد كانت من أصل عربي، خاصة السكر الباهظ الثمن آنذاك الذي أولع به أهل المدينة لدرجة أنهم كانوا يضيفونه إلى المعكرونة.

من المؤكد الآن أنك ستستمتع بالطعام الجيد المحلي أينما ذهبت في فلورنسا أو مقاطعة توسكانا ففيها المطاعم الإيطالية الفخمة بأسعارها الغالية التي تصل إلى 200 يورو (250 دولارا) للشخص الواحد والمطاعم البسيطة الشهية التي لا تتجاوز أسعار الوجبة فيها 12 يورو (15 دولارا) للشخص الواحد، إنما المفاجأة هذه الأيام هي كثرة المطاعم الأجنبية في وسط فلورنسا السياحي وتعددها. أهم معلم سياحي في وسط المدينة التاريخي هو الجسر القديم (بونته فيكيو بالإيطالية) منذ عام 1345 وعلى مسافة خمس دقائق منه يقع حي سانتا كروشه الراقي، وفيه كنيسة مشهورة فيما مضى شيدت في القرن الثالث عشر ودفن فيها العظماء من أبناء المدينة ومن بينهم الشاعر دانتي أليغيري مؤلف «الكوميديا الإلهية» المتأثر بالأدب العربي كأشعار أبو العلاء المعري ومحيي الدين بن عربي، كما أنه أبو اللغة الإيطالية الحديثة وما نسمعه الآن هو نطق وكتابة أهل توسكانا وفلورنسا بشكل خاص، ومايكل أنجلو الذي عمل مثالا ومهندسا ومصورا وشاعرا، ومن أشهر تماثيله «موسى» و«العذراء الأسيانة» ورسوم سقف كنيسة سيستينا في الفاتيكان، وغاليليو غاليلي عالم الفلك الذي أيد نظرية دوران الأرض حول الشمس فانتهت حياته بالإقامة الجبرية في منزله تحت إشراف محاكم التفتيش، ونيكولا ماكيافيللي مؤلف كتاب «الأمير» عن كيفية الاحتفاظ بالحكم، فكل الوسائل مبررة من أجل السيطرة السياسية، وتزين الكنيسة اللوحات الجدارية للرسام الكبير جوتو، ولا يبعد عنها أهم مسرح عريق في فلورنسا وهو «لا برغولا» أو المطاعم التقليدية والابتكارية الشهيرة مثل «اينوتيكا بنكيتوري» أو «شبريو» أو المطعم النموذجي لمطبخ توسكانا «خبز وزيت» (بانيه إي أوليو بالإيطالية) وشبيهه المسمى باسم صاحب المطعم «دينو» المختص باللحم المشوي والخبز على الحطب، وحتى دانتي اختاروا اسمه لمطعم إيطالي تقليدي للسمك والبيتزا في بناء يعود إلى القرن الثالث عشر. أينما تجولت الآن في تلك المنطقة حول شارع الموسيقار فيردي ستجد تركيزا على المطاعم الأجنبية وستلقى مطعما لبنانيا (وادي الأرز) أو روسيا (مارينا) أو يونانيا (ديونيزو) أو يابانيا (ايتو) أو تركيا (شاورما إسطمبول) أو صينيا (ماندارينو) أوعراقيا (كباب ما بين النهرين) أو مغربيا - فرنسيا (سيساميه) دون ذكر الحانات الإنجليزية والأيرلندية والمكسيكية. لا ندري كيف كان هؤلاء العباقرة سيفكرون حين يدركون أن جيرانهم في القرن الحالي جاءوا من مختلف البلدان ليقدموا مآكلهم لأهل المدينة وزوارها الأجانب، وكيف أصبحوا يتكلمون اللغة الإيطالية هذه الأيام دون الالتزام بقواعدها، فقد لوحظ أن أحد المطاعم الأجنبية وضع لافتة ترجمت من لغته الأصلية وتقول بالإيطالية: نبعث بالأطعمة إلى أي مكان عن طريق الفاكس! وادي الأرز: مطعم لبناني جديد قريب للغاية من كنيسة سانتا كروتشه، استوحى اسمه من أرز لبنان وصاحبه إبراهيم سعادة وصل من جبيل (بيبلوس) في لبنان إلى إيطاليا منذ سنوات واستقر في فلورنسا، وأطعمته لذيذة وأصلية وكأنها وصلت للتو من بيروت، لأن الطباخ لبناني أيضا ويتقن بامتياز طهي الكبة بأنواعها المختلفة وكافة المقبلات المعروفة كالحمص بطحينة والمتبل والبابا غنوج والتبولة، والجو مريح تشعر فيه بالود والتهذيب، كما أن الديكور ينسجم مع طراز فلورنسا الفني وصور لبنان السياحي وأغاني فيروز الخافتة والخدمة ممتازة بشكل طبيعي دون معاناة ولا مكابدة، وفي ليالي الجمعة والسبت يكتمل الانسجام بوجود راقصة شرقية.

Valle del Cedro – Borgo Santa Croce, 11 R – Tel. 055 2346340 مارينا: مطعم روسي افتتح مؤخرا بالقرب من كنيسة سانتا كروتشه، وصاحبته الروسية مارينا هي طاهية الأكل البيتي الإيطالي أو الروسي التقليدي الذي يتناوله الروس في موسكو أو سان بطرسبرغ كشوربة الشوندر أو الفطائر الرقيقة (كريب) بكافيار سمك السلمون والسلطة الروسية المشهورة واللحم المطهي على نار هادئة مع الملفوف والخضار، وزوجها مدد من أذربيجان يتحدث الروسية والإيطالية بطلاقة ويدير المطعم، أما بناتها فيعملن كنادلات لخدمة الزبائن. الديكور بسيط لكن الجو العائلي الدافئ يجعلك تحس وكأنك ضيف لدى هذه العائلة اللطيفة.

Marina – Via Verdi 12 r – tel. 055 2001736