مطعم باب كيسان.. ينقل روما إلى دمشق

الباستا والبيتزا الإيطالية في آخر الشارع المستقيم

TT

بعد أمسية للموشحات الأندلسية والموروث الموسيقي العربي الأصيل امتزجت مع الموسيقى الإسبانية التقليدية القديمة في دار الأوبرا بدمشق وتصاهرت معها، تبين أن عاصمة الأمويين أصبحت بوتقة للثقافات والطهو. انطلقنا إلى العشاء في مطعم إيطالي فريد في قلب المدينة القديمة وبالتحديد في آخر «الشارع المستقيم» أو سوق مدحت باشا، لنكتشف لذائذ المطبخ الإيطالي قرب أحد الأبواب السبعة لدمشق، وهو «باب شرقي» و«باب كيسان» في «مطعم باب كيسان» حيث تحول القديس بولس قبل ألفي عام من اليهودية (وكان اسمه شاؤول) إلى المسيحية، بعد فقدان بصره ثم عودته إليه إثر علاج القديس المسيحي المتخفي آنذاك حنانيا، وبعدها هرب القديس بولس ليلا من باب كيسان، وانتهى به الأمر في إيطاليا، حيث نشر المسيحية فيها، وأقيمت أول كنيسة في باب كيسان، ولا تزال قائمة حتى اليوم بعد أن جددها الفرنسيون أثناء حكم الانتداب عام 1934. الإغراء الكبير في هذا المطعم ليس الطعام المتقن فحسب، بل استذكار التاريخ في مكان صُنع فيه التاريخ منذ خمسة آلاف سنة. علاقة بلاد الشام مع روما تعود إلى عهد الإمبراطورية الرومانية، لكن الأهم من الناحية الغذائية هو ما قدمه العرب إلى المطبخ الإيطالي منذ القرن الثامن الميلادي، حين حكموا صقلية وقسما من جنوب إيطاليا لمدة 250 سنة، ثم أسهموا خلال الحروب الصليبية منذ القرن الحادي عشر في تعريف إيطاليا وإسبانيا على السكر (سوكيرو بالايطالية) ونقلوا إليهما عبر العائدين من الحروب، الأرز والقمح القاسي، الذي لا يزال يسمى القمح العربي ( ساراشينو) والسبانخ والبرتقال الحقيقي عوضا عن النارنج الحامض المعروف في أيام الرومان، وكذلك الرمان والمشمش والمثلجات والكحول والكثير من التوابل والأعشاب العطرية، وطرق تجفيف الفواكه أو اللحوم بالملح حسب الأساليب الهندية والصينية الحديثة المتبعة في ذلك الزمان، وحين حاصر الصليبيون دمشق جاءوها من الغرب عند الربوة ولم يدخلوها، بل اكتفوا بنهب أشجار الخوخ في الغوطة وأخذوا عينات منها لدى عودتهم إلى بلادهم.

كان الرومان يسمون الشارع المستقيم Via Recta الممتد من شرق دمشق (باب شرقي) إلى غربها (باب الجابية) بهذا الاسم، لأنه يسير بخط طويل مستقيم لبضعة كيلومترات، وتنتشر فيه الحوانيت التجارية التي جرى تجديد واجهاتها في العام الماضي بالخشب، مما جعل سوق مدحت باشا ينافس سوق الحميدية الموازي له، وبقيت أعمدته الرومانية الأثرية قائمة حتى الآن، خاصة في (باب شرقي) الذي دخله العرب حين فتحوا سورية عام 636 ميلادية وهزموا الروم أو البيزنطيين حكام الإمبراطورية الرومانية الشرقية، وبقيت كنيسة المريمية وبالقرب منها مسجد الشيخ نبهان، أما باب كيسان فقد اختفت منه الآثار الرومانية عندما كان موئلا لزحل (ساتورن) إله الزراعة لدى الرومان. وتجد الآن كثيرا من السياح الإيطاليين والأجانب يزورون كنيسة القديس بولس المتواضعة ويقيمون في بيوت دمشقية قديمة تم إصلاحها وتجديدها لجعلها فنادق صغيرة فاخرة مثل «بيت الرمان» الذي أضافوا له مؤخرا حماما على البخار sauna.

المطاعم الإيطالية خارج إيطاليا كثيرة ويقدر عددها بـ80 ألف مطعم، ولها 3 ملايين من الزبائن، كما يعمل فيها نصف مليون مستخدم، ويبلغ دخلها السنوي 30 مليار يورو (39 بليون دولار) لكن أغلبيتها لا تقدم الأكل الإيطالي الحقيقي، بل هي نسخة باهتة معدلة عنه، لأن الكثيرين من أصحابها ليسوا إيطاليين ولعلهم لم يزوروا إيطاليا في حياتهم، وكل ما يعرفونه عن الطهو الإيطالي لا يتعدى كتابا رديئا عن الوصفات الإيطالية، أضاف كاتبه ما تسنى له من المكونات والخلطات والنسب المغلوطة. بدأ انتشار المطاعم الإيطالية في أوائل القرن العشرين بعد هجرة الإيطاليين إلى الخارج لكسب العيش، فهي ليست كالمطاعم الفرنسية الباذخة لتلبية متعة تناول الطعام الأجنبي، بل كانت ضرورة عملية لإطعام آلاف المهاجرين الفقراء، أما في عصرنا الحالي، فقد أصبحت موضة للتفاخر، فافتتحت مطاعم إيطالية باهظة الثمن فروعا لها في نيويورك وطوكيو مثل «شبرياني» من البندقية (فينيسيا) و«اينوتيكا بينكيوري» من فلورنسا، لكن الأكاديمية الإيطالية للطعام انتقدت مؤخرا المطاعم الإيطالية في الخارج، لأن ثلثي تلك المطاعم تخطئ في المكونات. تجربتي الخاصة مع المطاعم الإيطالية في الخارج – ما عدا القليل منها – ليست مشجعة، حتى لو كان الطباخ إيطاليا، لأنه يعمد إلى تعديل الوصفة لتتناسب مع الذوق المحلي، ويستخدم المكونات غير الطازجة، فالبعض يضيف الكثير من الثوم، ظنا أن الإيطاليين يأكلون الثوم بوفرة من الصباح إلى المساء، والبعض يطهو المعجنات أكثر من اللازم، اعتقادا منه أن الزبون لن يمضغها، بل سيبلعها، أما البعض الآخر فيضيف إلى المكونات الأصلية البصل وثلاثة أعشاب عطرية قوية متنافرة، متوهما أن ذوقه الفاسد سيجعله في مصاف الطهاة المبدعين، بدل أن يكتفي بفص واحد من الثوم في صلصة الطماطم ويزينها بالحبق أو الريحان فقط .

سر المهنة: حين أوصانا الأصدقاء في السفارة الإيطالية والسفارة البرازيلية في دمشق بمطعم «باب كيسان» تراءى لي أنني سأقع في نفس المقلب المعروف، وهممت بالرفض لأنني أقطن في روما وأستمتع بأكلها ومطاعمها الأصلية، فلم إجراء التجارب الجديدة في سورية ؟ دخلنا المطعم الصغير الأنيق من دون مبالغة، قرب «باب شرقي» وشارع ضيق يسمى العبارة، إذ إن تسميته كانت من العهد المملوكي حين كانت تعبر المسافة إلى باب كيسان عبارة صغيرة كانت تسير فوق قناة ماء في هذا الموقع، فلفت نظرنا وجود بعض التماثيل والأقنعة الأفريقية فقلت في نفسي: هذا أول المقلب، لكن حين تحدثنا مع رنا قندلفت، مديرة المطعم والشيف الأساسي فيه، بدأت في مراجعة تحيزي المسبق، وحين التهمنا المآكل والأطباق اللذيذة نسيت أنني في دمشق عاصمة الأكل العربي وظننت أنني ما زلت في روما. كانت مفاجأة سعيدة حقا أن ترى وتستمتع بالمعجنات الإيطالية المتقنة، وقد طهيت بالنسب المضبوطة والمكونات الطازجة الصحيحة فسألت رنا قندلفت: «من الطاهي عندكم، وهل هو إيطالي حقا؟ فأجابت وعلى شفتيها ابتسامة وديعة على الرغم من الحزن الخفيف في عينيها: «أنا.. وقد تعلمت أصول الطبخ الإيطالي في العاصمة الإيطالية، فقد وصلت إليها عام 1997 للدراسة الجامعية، وبقيت ثلاث سنوات، فضلت خلالها إتقان فن الطهو، مستوحية أسلوب جدتي التي كانت تتقن الطبخ الشامي العريق». وأردفت قائلة «حين عدت إلى دمشق راودتني فكرة المطعم الإيطالي، ثم سنحت لي الفرصة حين تحول فرن القشلة (أي الثكنة العسكرية) إلى متجر لبيع التحف الشرقية والموزاييك، لكنه لم ينجح لكثرة المنافسة حوله، فأقنعت صاحب الحانوت بتحويله، قبل ثمانية أعوام، إلى مطعم أجنبي، فقبل وبدأ التجارة في أفريقيا، ومنها يهدينا التماثيل الأفريقية بعد عودته من رحلاته، لكننا قاسينا في السنوات الأولى، ثم بدأ صيت المطعم الإيطالي في الانتشار، خاصة مع زيادة عدد السياح، ووجوده في قلب المنطقة التاريخية، وإعجاب الزبائن بالأكل الإيطالي البسيط لذيذ المذاق». وسألناها عن المكونات الأصلية فأجابت «أستورد اللحم البقري المجفف (بريزاولا) bresaola من إيطاليا عن طريق لبنان، لأنهم لا يعرفونه هنا، أما الجرجير فيزرع في الغوطة بالقرب منا، وسر النجاح هو الاهتمام الشخصي بالعملية، وإتقان الطبخ الإيطالي على أصوله، وكما كانت جدتي تقول: الطبخ فن، وعلى الطاهي أن يكون له نَفَس على الأكل».

كانت رنا قندلفت على حق حين قالت إن طبقها المفضل هو اللحم المجفف مع جبن البارميزان (بارميجانو ريجانو) والقليل من عصير الليمون وزيت الزيتون، فطريقة التجفيف بوضع فيليه اللحم البقري في الهواء الطلق مع إضافة الملح والقليل من جوزة الطيب لمدة شهرين أو ثلاثة، كما يفعلون الآن في ميلانو وريفها، كانت الوصفة العربية التي اقتبسها الطليان في القرون الوسطى، وها هي بضاعتنا ردت إلينا مثلما نستعمل كلمة «أميرال» ربما من دون أن ندري أنه لقب عسكري عربي قديم وهو: أمير البحر.

الوجبة: سباغيتي بالطماطم – بينه penne غاضبة ( أي معجنات اسطوانية فارغة مع الطماطم والثوم والفلفل الأحمر الحار) – تورتيليني بالكريمة (وسائد من المعجنات محشوة باللحم والجبن – بيتزا مع الجرجير واللحم المقدد (بريزاولا) – السعر للشخص الواحد: 800 ليرة سورية أو 17 دولارا) - مطعم باب كيسان - دمشق – باب شرقي – القشلة – هاتف 5426141