سيرة ثلاثية الأبعاد لمهنة الجزارة

لحم السعادة

TT

في النصف الأول من عام 2001 قام الشاعر والكاتب اللبناني محمد العبد الله بنشر كتابه الجميل (لحم السعادة) الذي يمرر فيه من خلال كتابة نصوص نثرية جميلة، بعضا من سيرته الذاتية. ومن ضمن ما يتم ذكره في هذا الكتاب، علاقة الشاعر مع اللحم المشوي والروائح التي تنبعث منه والكبة (النية) وغيرها من الأكلات التي يعتبر اللحم جزءا رئيسيا وأساسيا في تكوينها. وكان الروائي والناقد عماد العبد الله قد ذكر في كتابه (الأرض الحرام: الرواية والاستبداد في بلاد العرب) أن رائحة اللحم المشوي كانت تصل من منطقة الجليل في فلسطين إلى قريته الخيام القريبة من الحدود الشمالية لفلسطين. هنا، لا يمكننا الفصل بين الأدب واللحوم، وكأن الأدب يستعين بها ليشكل مادة دسمة تشبع القارئ، وتشبع كذلك العين التي تقرأ قبل أي شيء آخر. لكن الأدب، حتى العالمي الذي أتى على ذكر اللحوم، ومنه أدب أميركا اللاتينية، لم يتطرق بأي إشارة إلى المهنة التي يعمل بها كثيرون وهي مهنة الجزارة. الأدب يتكلم كثيرا عن اللحم، لكنه لا يتكلم كثيرا عن الفوارق التي بين الشعوب في التعامل مع مهنة الجزارة أو «اللحامين» باللبنانية والفلسطينية الدارجة. على هامش هذا، وفي جلسة في مقهى المودكا البيروتي، الذي أقفل قبل عدة سنوات وتحول إلى متجر لبيع الألبسة والأحذية، كان صديقي الشاعر محمد الأمين يكتب قصيدة سماها (حبيبتي اللحمة) وهي عبارة عن تحية مباشرة غير ملغزة على عادة الشعر إلى نوعية الأكل المحبب على قلب الشاعر. يتقفى هذا التحقيق، سيرة ثلاثة أشخاص من العاملين في مهنة الجزارة في كل من لبنان، المغرب، فرنسا. والطريقة التي تسير عليها المهنة في كل دولة من هذه الدول ذات الثقافات المختلفة عن بعضها بعضا. وعلاقة اللحوم بالمطبخ المحلي لكل ثقافة من هذه الثقافات. وإذا كان لا بد من إدخال التجربة الشخصية إلى هذا التحقيق، فيجدر بي القول، إن مذاق اللحوم يختلف بين هذه الدول بقدر ما تختلف الثقافة المحلية في التعامل مع اللحوم، وذلك نتيجة المرعى الذي تحصل الحيوانات منه على غذائها، كما تختلف بالطبع فيه نوعية اللحوم وجودتها. وعلى الرغم من أن الإقامة في الغرب تحتم على المرء التعايش مع الواقع الذي يعيش فيه، أي أن يأكل من الموجود في مكان إقامته، فإنني لم أعثر لغاية اليوم على لحم يتشابه في مذاقه بالمذاق الفريد في لبنان، حيث يمكن وبسهولة ويسر أكل اللحم نيئا وحين يكون طازجا، كما يوجد عدد كبير من الأكلات التي يعتبر اللحم النيئ عمادها الأساسي مثل (الفراكة، والملسي، والكبة النية.. إلخ ) وكذلك (السودة النية) التي لا يمكن أكلها لا في الغرب ولا حتى في الدول العربية. أما خفايا المهنة فهي شيء آخر تماما لا يتعلق بالطعم، بل بأسرار لا تحصى لا يمكن لأي مهني كشفها جميعها. يقول محمد النابلسي، وهو صاحب محل للجزارة جنوب مدينة صيدا اللبنانية «إن مهنتنا عادية جدا، ويمكن لأي شخص تعلمها بشرط توافر الرغبة لديه في التعلم كأي مهنة أخرى» لكن يضيف «فإن تعلم المهنة يحتاج إلى الوقت، وليس مجرد عدة أسابيع كما نلاحظ هذه الأيام، حيث يأتي شخص للعمل وبعد شهرين أو ثلاثة يذهب ليفتتح متجره الخاص، على اعتبار أنه أصبح محترفا» فعلى الجزار «ليس فقط أن يفهم المهنة وطريقة التعاطي مع اللحوم وقطعها وكذلك من أين نقطعها بحسب الأكلة التي يريد الزبون أن يحضرها» هي تتجاوز ذلك بكثير، إذ عليه «أن يتعلم كيف يمكنه معرفة إن كانت هذه اللحمة جيدة أو غير جيدة من نظرة واحدة، وهذا ليس أمرا هينا أبدا، بل يحتاج إلى خبرة عميقة جدا».

أما في المغرب، الذي يعتبر اللحم جزءا أساسيا من مختلف أطباقه، مثل الطاجين على أنواعه، إلى الأكلة الرسمية (الكُسكُسْ)، إلى اللحم المبخر أو المطهو على البخار، إلى المشوي – المشوي بحسب المغاربة هو الخروف حين يوضع كاملا على النار – إلى مشتقات الأغنام مثل الكراعين والأحشاء الداخلية والكبد ملفوفا بالدهن ويسمى «بولفاف» وهو عبارة عن الكبد مقطعا، وكل قطعة منه ملفوفة بالدهن، ويوضع في أسياخ الشوي ويشوى على الفحم، وهو، بحسب ما يقول سعيد الصالحي، العامل في أحد محلات الجزارة في الدار البيضاء، من الأكلات الشعبية في عيد الأضحى. أما عن المهنة وخباياها الكثيرة فيقول سعيد «لا تحتاج هذه المهنة في المغرب للكثير من الخبرة، إلا ما يتعلق منها بمعرفة جودة اللحم، والتعلم مع الوقت، المناطق الأكثر غنى باللحم في جسم الخروف أو العجل»، أما ما عدا ذلك «فهو مجرد الخبرة في تقطيع اللحم وكيفية توزيعه، فاللحم الذي يستخدم في الكسكس يجب أن يكون طريا وخاليا من الدهون الكثيرة والعظم، أما الطاجين فهو يحتاج، بسبب بقائه لفترة طويلة على النار، إلى أن يكون غنيا بالدهون والعظم الذي يضيف إلى الطعم مذاقا طيبا ورائحة أيضا»، أما الكفتة، يضيف سعيد «التي يمكن أن تؤكل مشوية أو في عدة وصفات من الطاجين، فهي أكلة سهلة وسريعة إذ لا يحتاج تحضيرها إلى خبرة عميقة في المهنة» مع ذلك يقول سعيد «يفضل أكل الكفتة من بعض المطاعم المتخصصة بها، وهي قليلة، إذا حسبنا المطاعم المشهورة بها» كذلك فإن من خفايا المهنة تحضير (السوسيس) أو الهوت دوغ التي تبقى عملية تحضيرها «ليست من الأسرار، لكن من الأشياء التي تخص كل متجر على حدة، فهناك من يستعمل اللحم الصافي فيها، إضافة إلى بعض الدهون لإعطاءها المذاق، وهناك البعض من الذين يحشونها بكل ما يتبقى عندهم من فضلات اللحم والدهون التي، طبعا، تذوب أثناء عملية الطهو» ويؤكد سعيد الصالحي، أن أهم شيء في هذه المهنة «هو النظافة، لأنها الأساس، فنحن نبيع الأكل للناس جميعا، ولذلك فإن أي عملية تقصير في شروط النظافة، يعني أننا نعرض سلامة الناس للخطر». في فرنسا الأمر مختلف عن لبنان والمغرب، هنا الرقابة شديدة للغاية على المحلات التي تبيع المأكولات، وشروط العمل في هذه المهنة صعبة للغاية، وقد أصبحت تحتاج إلى شهادة خاصة، لكن مع هذا، فثمة تجاوزات كثيرة، وثمة الكثير من العاملين في المهنة لم ينالوا هذه الشهادة. إنما أتوا، إما بسبب وراثة المهنة عن عائلاتهم، أو لاختيارهم المهنة بدافع العمل ليس إلا. لكن ما يتعلق بالرقابة، فهو أمر لا مفر أو مهرب منه، وبما أن العرب متواجدون أينما وقعت العين على خريطة العالم، وفي فرنسا أيضا، فثمة متاجر تبيع ما يسمى (اللحم الحلال) أي الذبح على الطريقة الإسلامية، وهي الطريقة التي أثبتت صحتها علميا، بعدما تبين أن بقاء الدم في عروق الحيوانات بعد عملية الذبح، قد يسبب أمراضا عديدة لمن يتناولها. وبعيدا عن القصص التي تروى عن (اللحم الحلال) والغش فيه، فإن بعض المتاجر تبيع فعليا هذا اللحم من دون أي غش يذكر. أما المتاجر الكبيرة التي يكون اللحم فيها معلبا وجاهزا، فهي عادة ما تتعامل مع شركات كبيرة ومعروفة لا يمكن التلاعب في نوعية اللحوم التي تنتجهه إلا في نطاق محدود جدا. تحدث غيتا بوقاري، وهي تعمل في محل للجزارة في مدينة ليون الفرنسية، بأن المهنة في فرنسا «تعتمد على قدرة العامل على تجزيء الحيوان إلى قطع، كل منها يستخدم في طبق أو أكلة معينة» وهذا الأمر «يأتي مع الخبرة والتمرس في المهنة» وهي في هذا الأمر مهنة «لا تحتمل الغش إطلاقا» حيث «إن اللحم يعرض أمام الزبائن بشكل علني ويباع عن طريق اختيار الزبون للقطعة التي يريدها من اللحم» ولا يفرض عليه «لا نوعية اللحم ولا طريقة قطعه بتاتا». ولا مجال لرمي فضلات مثل العظم على سبيل المثال «لأن العظم هنا يباع مع اللحم، أي أنه يباع بنفس الثمن الذي يباع به اللحم دون تفضيل» وهذه «عملية مربحة للغاية، حيث إننا حين نشتري اللحم من مصدره الأساسي عادة ما يتم خصم نسبة من الثمن بسبب وجود العظم» أما المشكلات التي تعاني منها غيتا كونها امرأة وتعمل في هذه المهنة فهي «رائحتي حين أخرج من المحل عائدة إلى بيتي، فرائحة اللحوم قوية جدا، ولا يمكن لأي عطور أن تلغيها» كما يجب «غسل ملابس العمل يوميا، حيث إن هذه الملابس إذا تركت يوما واحدا من دون غسيل، فمن المستحيل ارتداؤها بسبب رائحة اللحم والدم» وهذا كما تقول غيتا «من مصاعب هذه المهنة بالنسبة للمرأة». بالعودة إلى عالم الأدب والحياة والتغني بالجمال والمرأة، فإن من اللغات أو وسائل الغزل المستعملة ذكوريا مع المرأة، وصفها في كثير من الأحيان بأسماء بعض الحيوانات الجميلة، مثل الفرس والمهرة والغزالة وغير ذلك من أسماء تطلق للوصف، وكأننا حتى مع النساء نتعامل بذاكرة لغوية خارجة من متاجر بين اللحوم ومشتقاتها.