طبق «البايلا».. سره في تاريخه واسمه

أكثر من مجرد أرز

TT

لم تنجح سوى كلمتين إسبانيتين في تجاوز الحدود الإسبانية هما سيستا وبايلا. ربما يعود السبب في ذلك لأن كلتا الكلمتين مرتبطتان بنفس الرغبة: الطعام والراحة الجيدة، أو ربما لأنهما تلخصان عبق الحياة الإسبانية. تعلم غالبية شعوب العالم ماهية كلمة بايلا على الرغم من أن العديد منهم لم يأكلوا البايلا الحقيقية. وقد اعتاد السياح في إسبانيا طلب هذا الطبق في أي مكان وبأي مكونات وهو ما يدهش السكان المحليين.

زادت سهولة إعداد هذا الطبق من تعدد أنواعه: منها ما يعد باللحم أو السمك أو الخضراوات أو أعشاب البحر، أما الطبق الأكثر شهرة على مستوى العالم هو المعروف باسم بايلا ميكستا وهو الطبق الأقل تناولا من قبل الشعب الإسباني. وتقول الحكايات الشعبية إن طبق البايلا ولد في فالنسيا التي كان سكانها يرغبون في حمل طعامهم معهم إلى البساتين. وقد اعتادوا أن يضعوا في هذا الطبق كل شيء في متناول يدهم الخضراوات والدجاج والأرانب والأرز والزيت والزعفران والقواقع البحرية. كانت تلك المقادير رخيصة وكانت تمزج لتنتج أشهر طبق في المطبخ الإسباني. بيد أن المذاق الجيد هذه الأيام دفع باتجاه اللجوء إلى أساليب متنوعة في طهيه، فأصبح من الممكن أن تجد بايلا بالتونة والاستاكوزا الإخطبوط. يأتي اسم بايلا من القِدر الذي يطهى فيه الطعام، وقد تعددت النظريات حول أصل هذه الكلمة، فيعتقد بعض الخبراء أن الكلمة مشتقة من الكلمة اللاتينية «باتيلا». وتستخدم هذه الكلمة الآن في الكثير من اللغات اللاتينية. بيد أن خبراء آخرين يعتقدون أن الكلمة مشتقة من الكلمة العربية «بقية» وهي تعني «الطعام الذي تبقى بعد تناول طعام الغداء أو العشاء». قد يكون ذلك الأصل صحيحا لأن الأرز قدم إلى إسبانيا من شمال أفريقيا في القرن الثامن عشر، وكان تناول البايلا يتم عادة في وجبة العشاء ونتيجة لذلك تعلم الإسبان من العرب زراعة وطهي المكون الرئيس لشرق إسبانيا وهو الأرز.

أكل أهالي فالنسيا الأرز، في القرن السادس عشر، في القدور الفخارية لكنهم لم يكونوا قد تعرفوا على البايلا بعد، وتظهر الوثائق أنهم عرفوا هذا الطبق في القرن السابع عشر. ويمكن القول إن البايلا أكثر أطباق الطعام الإسباني مساواة بين النساء والرجال. فمنذ البداية كان طهي هذا الطبق مهمة الرجل. وفي الأيام القديمة حتى في المجتمعات الذكورية لم يكن من الغريب مشاهدة مجموعة من الرجال جمعوا حطبا وأشعلوا نارا وأعدوا الطعام بأنفسهم. استمرت تلك العادة في تلك الأيام والآن. وفي أوقات الحفلات أو الزيارات المنزلية يتولى الرجال مهمة الطهي بمساعدة النساء.

والطريقة الأساسية لإعداد هذا الأرز تكون على النار، التي تكون على وجه التحديد من أغصان أشجار البرتقال لأن الطعم الناتج عنها يكون جيدا. ولا يزال ذلك التقليد مستمرا حتى الآن خاصة في الحفلات والمناطق الريفية. بيد أنه في الأيام المعتادة أو عندما يتعذر إشعال النار تستخدم مواقد الغاز لطهي الطعام دون مشكلة.

لا تقوم في المنازل الفالنسية بطهي بايلا ميكستا. لكن يمكنك تناول البايلا بلحم الدجاج أو لحم الأرانب أو الخضراوات أو بايلا البحار ولكن ليس مع كل شيء في نفس الإناء. ويشتهر الساحل الإسباني بتناول البايلا بالسمك والأعشاب البحرية على الرغم من وجود العديد من الأنواع مثل «أروز آ باندا» المطهي من حساء السمك مع تقديم قطع السمك بمفردها وكذلك الأرز المطهو في صبغة الإخطبوط والمسمى «الأرز الأسود» والبايلا بالاستاكوزا (وهو أغلى الأطباق) والأرز مع الجمبري. أما في المناطق الداخلية يشيع أكل البايلا باللحم والخضراوات مثل الدجاج والأرانب واللحم البارد.

إضافة إلى ذلك فإن من الشائع جدا طهي تلك الأطباق بنوع معين من المحار الذي يعطيها نكهة خاصة، ويكثر إعداد هذا الطبق في المنازل عنه في المطاعم. وهناك ثلاثة أمور يجب الحرص عليها للحصول على طبق بايلا جيد: جودة المكونات والتي يشكل الأرز الجزء الرئيسي فيها وعملية طهي ملائمة (نار هادئة) وقِدر (والذي يدعى بايلا أيضا). هذا القدر يشبه الإناء لكن دون مقابض وبدعامتين كما في العصور القديمة كي يحمل منها ويساعد الآن في عملية التبخر.

ويشيع تناول طبق البايلا في العديد من قرى فالنسيا وأليكانتي أيام الآحاد أثناء الاجتماعات المألوفة ومع الرجال في المطبخ. ويجمع هذا الطعام الأفراد حوله في العديد من المناسبات، ويبدأ عادة بتناول البايلا من القدر دون أطباق.

وفي المطاعم يسهل الحصول على البايلا أيام الخميس والآحاد، ويعد يوم الخميس عادة غريبة في القطاع السياحي يحدث في العديد من المدن الأسبانية، لكن خبراء المطبخ يقولون إن أيام الخميس خاصة جدا خلال القرن الماضي لأنها اعتادت أن تكون أيام عطلات الخدم. وفي أيام الأربعاء يترك الطاهي كل مقادير البايلا وما على السيدات سوى وضع الأرز. ولا تزال تلك العادة قائمة الآن في المطاعم التقليدية.

إن تلك ليست قصة طريفة حول طبق هام في إسبانيا، فطبق البايلا له أسطورته الخاصة والتي ورد ذكرها في «ألف ليلة وليلة». وتشير الأسطورة إلى أنه خلال حرب الاستقلال طلبت امرأة جنرال فرنسي تحرير بعض الأسرى الإسبان، وقد وعدها الجنرال، المهووس بالبايلا، بإطلاق سراح الأسرى لكن بشرط كل سجين في مقابل طبق بايلا مختلف تتمكن من إعداده وتقديمه له. وبعد أن أطلق الجنرال سراح 165 متمردا أعفي الجنرال من عمله إلا أنه استمر في طلب المزيد والمزيد من البايلا واستمرت المرأة في صنع المزيد والمزيد من الأطباق.

* صحافية من «الموندو» الإسبانية متعاونة مع «الشرق الاوسط»